نشرت الكاتبة رانيا أبو زيد في مجلة “نيويوركر” الأميركية بتاريخ 2 حزيران 2025، مقالًا بعنوان “من يملك السلاح في لبنان؟”، استعرضت فيه التحديات التي تواجه السلطة اللبنانية في الجنوب، وسط دعوات متزايدة لنزع سلاح حزب الله، ومحاولات الجيش اللبناني لبسط سلطته في منطقة شهدت حرباً مدمّرة مع إسرائيل.
في نهاية شباط، زار رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام جنوب لبنان في ثاني أيام تسلّمه منصبه، متعهداً بإعادة إعمار المنطقة التي تعرّضت لأضرار قُدّرت بمليارات الدولارات نتيجة الحرب بين حزب الله وإسرائيل. كما وعد بتعزيز قدرات الجيش اللبناني لفرض سلطة الدولة في مناطق طالما خضعت لنفوذ “المقاومة”.
لكنّ زيارة سلام لم تمر من دون رسائل شعبية مباشرة. ففي مدينة النبطية، شقّ رجل يحمل طفلاً طريقه عبر الطوق الأمني قائلاً بصوت مرتفع: “الكلمة الأولى يجب أن تكون شكراً للمقاومة”. وانتقد تجاهل رئيس الحكومة لدماء “شهداء المقاومة”، متسائلًا إن كان خائفاً من موقف الولايات المتحدة أو من استياء سفيرتها.
يُذكر أن الحرب التي اندلعت في تشرين الأول 2023، بعد يوم واحد من هجوم مفاجئ شنّته حركة حماس من غزة، واستمرّت حتى تشرين الثاني 2024، أسفرت عن استشهاد أكثر من 4000 لبناني و120 إسرائيلياً، قبل التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق نار. ورغم الاتفاق، لا تزال إسرائيل تحتلّ خمس تلال استراتيجية جنوب لبنان، أبرزها تلة الحمامص قرب بلدة الخيام، في خرق واضح لبنود التفاهم.
وفيما تحاول الدولة اللبنانية استرجاع هذه المناطق بالوسائل الدبلوماسية، تواجه معارضة شعبية متصاعدة تؤمن أن “الأرض لا تُحرّر إلا بالمقاومة”، وفق ما ردّده أحد سكان الخيام خلال جولة لرئيس الحكومة. وأضافت سيدة أخرى في وجه سلام: “نحن شعب، جيش، مقاومة… حتى آخر نقطة دم”.
اللافت أن البيان الوزاري لحكومة نواف سلام لم يتضمّن أي إشارة إلى “المقاومة”، وهو تطور غير مسبوق منذ عام 1990، حين أبقي على سلاح حزب الله لمواجهة إسرائيل. كما شدّد الرئيس الجديد للجمهورية، العماد جوزيف عون، على حصرية السلاح بيد الدولة. ومع أن لا سلام ولا عون كانا مرشحين مفضلين لدى حزب الله، إلا أن نواب الحزب صوّتوا لهما وساهموا في تشكيل الحكومة الجديدة، بعد فراغ رئاسي دام أكثر من عامين.
ورغم الاتفاق على انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني وانسحاب الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الحدود، تجاهلت تل أبيب المهل المحددة، وأعلنت على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أنها ستُبقي على ما وصفه بـ”المنطقة العازلة”، مدعومة بضوء أخضر أميركي. وبحسب المتحدث باسم قوات اليونيفيل، أندريا تيننتي، فإن الانتهاكات الإسرائيلية للاتفاق مستمرة، فيما لا تزال آلية المراقبة الأميركية-الفرنسية المشتركة عاجزة عن توصيف ما يُعد خرقًا.
وخلال الأشهر التي تلت وقف إطلاق النار، شنّت إسرائيل مئات الغارات على أهداف قالت إنها تابعة لحزب الله، امتدت إلى بيروت، موقعة عشرات القتلى والجرحى، فيما نفذ حزب الله عملية واحدة فقط في كانون الأول 2023، استهدفت موقعاً إسرائيلياً دون وقوع إصابات، ونفى مسؤوليته عن عمليتي إطلاق صواريخ عشوائية لاحقتين.
حزب الله، من جهته، يرفض التخلي عن سلاحه في ظل استمرار “العدوان الإسرائيلي”. وقال الشيخ نعيم قاسم في مقابلة مع قناة “المنار”، إن سلاح الحزب ليس موجهاً ضد الدولة، بل هو فرصة لها لتفاوض وتحفظ حقها. وردًا على دعوة الرئيس لحصرية السلاح، أكد قاسم أن “الكلام لا يُقصد به المقاومة”، مضيفًا أن “الكرة في ملعب الدولة”، متسائلاً: “ما الذي تستطيع فعله ضد العدو؟”
الجيش اللبناني، الذي لم يشارك مباشرة في القتال، تكبّد خسائر بشرية بلغت 19 جندياً خلال مهامهم و28 آخرين في منازلهم، فضلاً عن إصابة أكثر من 170 عنصراً. وبالمقارنة مع حزب الله، يعاني الجيش من ضعف في العتاد والقدرات الجوية، ويعتمد بشكل شبه كامل على مساعدات غربية مشروطة، تمنعه فعليًا من خوض أي مواجهة مع إسرائيل.
وسردت أبو زيد في مقالها حادثة “الشجرة” الشهيرة في 2010، حين قُتل ضابط إسرائيلي وجنديان لبنانيان خلال اشتباك مباشر، تلاه تعليق للمساعدات الأميركية، بحجة احتمال استخدام سلاح أميركي ضد إسرائيل، قبل أن تُستأنف بعد ثلاثة أشهر.
وتطرّق المقال إلى محاولات لبنان السابقة لتطوير قدراته الذاتية، كمشروع “صواريخ الأرز” في ستينات القرن الماضي، والمبادرة الروسية في 2008 لمنح لبنان طائرات وأسلحة، والتي أفشلتها ضغوط أميركية كما أظهرت وثائق ويكيليكس. كذلك أشار إلى أن فرنسا، في مؤتمر باريس 2024، جمعت مليار دولار لدعم لبنان، منها 200 مليون للجيش، إلا أن حجم الاحتياجات العسكرية يتطلب مليارات، بحسب مدير الأمن العام السابق عباس إبراهيم، الذي دعا إلى وضع استراتيجية دفاعية تُناقش مستقبل سلاح حزب الله.
الجنرال المتقاعد شامل روكز، قائد المغاوير السابق، أكد في المقابل أن حزب الله هو “القوة الوحيدة التي تقف بوجه إسرائيل”، داعياً إلى دمج قوته تحت راية الجيش، معتبراً أن الحل لا يكون بالتجريد القسري بل بالحوار. وهو ما ردده الرئيس عون الذي أعلن نيّته بدء مفاوضات مباشرة مع حزب الله، قائلاً إن “قرار وضع كل الأسلحة بيد الدولة قد اتُّخذ”، لكنه شدد على ضرورة تفادي الحرب الأهلية، داعياً واشنطن إلى الضغط على إسرائيل للانسحاب وإتاحة المجال للمفاوضات الداخلية.
من جهتها، أكدت قوات اليونيفيل أنها عثرت، خلال دورياتها المشتركة مع الجيش، على أكثر من 225 مخزن سلاح يعود لحزب الله وجماعات أخرى جنوب الليطاني، وأعلن الجيش اللبناني تفكيك أكثر من 90% من تلك البنى التحتية.
وختمت أبو زيد تقريرها من بلدة كفركلا الحدودية، حيث التقت عبد الله فارس، صاحب مبنى دمّر بالكامل بعد وقف إطلاق النار. قال الرجل الستيني إنه فقد كل ما يملك، بما في ذلك شجرة زيتون ورثها عن جده، وعلّق: “ما في شي اسمه وقف إطلاق نار، مزحة كبيرة”. وأكد، رغم خسارته، أنه سيقاتل دفاعًا عن أرضه “إذا لم يخرج الإسرائيلي”.