كتب بشارة شربل في نداء الوطن :
يخطئ الذين استفظعوا قيام “الأمن العام” باستهداف “مسرح المدينة” في شارع الحمراء لوقف مسرحية “تنفيسة” اعتراضاً على انتقادها أهل السلطة المالكين سعيداً فوق الخراب وبذريعة عدم استيفاء الاجراءات. فحجة المستهوِلين هي أن البلد في حال كارثة وانهيار ولم يبق حجر على حجر في ثلث العاصمة، فكيف لجهاز يُفترض ان همَّه الأساس السهر على أمن الدولة والناس أن “يتلهى بصغائر الأمور”؟ وكيف لرأس هذا الجهاز ان يقبل بالاعتداء “المقونن” على عمل فني شبابي تجريبي فيما هو يطارد شبكات الارهاب ويدخل في وساطات معقدة ويؤدي أدواراً أكبر من لبنان؟
المنطقي هو أن السلطة التي استتب لها الافلات من العقاب بعد سرقة الودائع ومسلسل النهب الطويل للمال العام، وتمكنت من تعليق عمل المحقق العدلي لمنع محاسبة المشتبه فيهم والمرتكبين، مضطرة الى استكمال حلقة السيطرة والترهيب، فتراها توقف مغرّدين من هنا، وتضغط على وسيلة إعلام من هناك، وتبشر بقانون إعلام يكرس “واجب الاحترام”، وصولاً الى ذروة الوقاحة بوقف عمل شبه مسرحي لن يهز الكراسي أو يؤدي الى تغيير النظام.
والحقيقة هي ان السلطة تشعر بالانتشاء، خصوصاً أن أفظع ما يمكن ارتكابه مرَّ بسلاسة وصار خبراً بين الأخبار. فها هم اللبنانيون يحمدون ويشكرون لأن طوابير البنزين تلاشت قبل أيام، ويشاركون الرئيس ميقاتي حزنه العميق على دخول الصهاريج عبر الحدود المستباحة، بل ان بعضهم رفع شعار “خوش آمديد” عرفاناً بجميل طهران أو تعبيراً عن ذمّية مكتسبة بفعل سلوك “العهد القوي”.
ليس وقف عرض “تنفيسة” خطأ عابراً أو سلوكاً شاذاً مارسه جهازٌ وجَدَ الوقت ليداهم مسرحاً فيما نسي لسنوات المعابر الرسمية والخاصة مشرعةً لكل أنواع التهريب، وفشل كغيره من الأجهزة حيال تخزين النيترات في مرفأ بيروت. إنه كمُّ أفواه يستكمل مهمات “الثورة المضادة” التي نجحت في التنكيل بثورة 17 تشرين، وصارت مرتاحة الى وضعها بعدما جددت للطغمة عبر صفقة فرنسية ايرانية استولدت حكومة “معاً للإنقاذ”.
حان وقت “نحنا منفكر عنك، والرقيب مصدر الإلهام”. نهبوا وسرقوا وفقأوا العيون وتسببوا بقتل شعبهم ولم يحاسَبوا، فلا عجب إن بادروا الى الاستئثار بسلطة كلام هو كل ما تبقى للتعبير عن الاعتراض. انهم يلغون مفاعيل ثورة 17 تشرين التي فضحتهم بالهتاف واللغة قبل ان تَظهر عوراتُهم موثقةً في السلوك والحسابات ثم في “جريمة النيترات”.
وقف “تنفيسة” مساء السبت بحجة التعرض اللفظي للمقامات يعيدنا بالذاكرة الى محاكمة “نداء الوطن” قبل أيام من اندلاع الثورة لنشرها عنوان “أهلا بكم في جمهورية خامنئي”. وإذ ان الحكم التمهيدي برّأ الجريدة، فإن السلطة التي انتصرت على شعبها وتشعر بالاستقواء تُخضع “نداء الوطن” مجدداََ الشهر المقبل لمحاكمة في الاستئناف.
هذه عيِّنات مما سنعتاد عليه. أهل السلطة متضامنون في حكومة محاصصة لا تعرف كيف تبدأ الاصلاح ومتواطئون على حق الضحايا والمشردين بفعل 4 آب، فبديهي أن تتعسف أدواتهم في استخدام القانون وألا تخجل من انتهاك الحريات.
ما قام به “الأمن العام” في مسرح المدينة ليس فقط “تنفيسة” نظام غاضب على شعب قرر استمرار المواجهة بالفن والأغنية والشعارات، بل هو استئناف لمسار قناص استفاق بعدما اضطر مرغماً الى النعاس والانكفاء.
إحترام الحرية هو القانون، والرقابة المسبقة من طبائع الاستبداد. ولا بدَّ لروح شارع الحمراء أن تُستعاد.