كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
ليست الذكرى الثالثة لانفجار المرفأ الوحيدة التي يحييها اللبنانيون بالبكاء على الضحايا وعلى طمس الحقيقة معاً. ربما كان لبنان البلد الوحيد في العالم الذي ترتكب فيه كل تلك الجرائم ويبقى المجرم مجهولاً وينتهي مصير أي تحقيق بتمييع الفاعل ويضيع التحقيق في زواريب السياسة. انتهت الحرب اللبنانية الى قانون عفو عام رتّبه المرتكبون في ما بينهم، فأعدّوا قانون براءتهم، وقادوا حقبة السلم، لكنّهم لم يتحوّلوا مسالمين ولا سعاة خير. وقعت جرائم كبرى كمقتل القضاة الأربعة في صيدا على قوس المحكمة وفي وضح النهار، وبقي فاعلها مجهولاً، ثم اغتيل عشرات المسؤولين والقيادات والصحافيين بدءاً بالرئيس رفيق الحريري الى الوزير بيار الجميل الى الصحافي جبران تويني والنائب أنطوان غانم وغيرهم الكثير، وبقيت العدالة غائبة عن السمع.
حين تغيب العدالة يرتفع منسوب الثأر، وهو الخصم الأول للعدالة، ويظهر بأشكال عدة من بينها الثأر بين المذاهب على شاكلة ما أعقب اغتيال الحريري من حساسية في العلاقة بين السنّة والشيعة، أو الثأر بالمباشر كتلك المواجهات التي شهدناها في عرسال وغيرها. وهل من الطبيعي أن تقع كل تلك الجرائم بلا مرتكب ولا يحرّك القضاء ساكناً حتى بات ارتكاب الجرائم في لبنان سهلاً والتفلّت من العقاب سمة؟
في أي بلد غير لبنان يمكن أن تسرق أموال شعبه وترتكب جريمة العصر في حقه، ولا نجد من يخوض تحقيقاً عادلاً وشفافاً، ولا يكتشف الفاعل والمجرم، ثم يخرج المتّهم الأول من منصبه بعد ثلاثين عاماً وقد سجّلت في حقّه عشرات الشكاوى والإرتكابات على وقع زفّة نظّمها الموظفون المنتفعون، ولغاية اليوم لا نعرف مصيره ومصير التحقيقات معه، وسط معلومات تقول إنه سيغادر قريباً لتولّي وظيفة جديدة في أبو ظبي؟ في لبنان أملاك عامة يستبيحها السياسيون ويستثمرونها بحفنة من الدينارات ولا أحد يحاسب، فوضى عارمة ومعدّلات جريمة آخذة في الارتفاع وسط شريعة الغاب. جريمة بحجم تفجير المرفأ أودت بحياة 250 ضحية وسقوط آلاف الجرحى وبلد مزّقت صورته بتدمير جزء كبير من العاصمة، فتدخلت عشرات المنظمات غير الحكومية المجهولة الارتباط وأنفقت أموالاً طائلة تدفّقت من كل حدب وصوب، وبقيت الجريمة مجهولة الفاعل.
عشرون شهراً والتحقيق في قضية المرفأ معطّل ومجهول المصير كما هي حال قاضي التحقيق. أُوقِف أناس أبرياء ثم أطلقوا بقوة التدخّل الأميركي ولم يردّ اعتبارهم وبقوا متّهمين، بينما المرتكب الحقيقي بقي في مأمن. وبقي القضاة يتابعون ويترقّبون من يرميهم بوردة ليقتصّوا منه، ثم يخلى سبيله بتعهّد عدم التعرّض. في الذكرى الثالثة زخم تصريحات للمسؤولين، وزراء ونواب تسابقوا الى استذكار المناسبة شجباً ووعيداً، اليوم ستخصّص خطب الجمعة للمناسبة وستقرع أجراس الكنائس وسيعتلي الأهالي الثكالى المنابر ويسألون بغصّة وغضب: أين حقوق أولادنا؟ أين الحقيقة؟ ومن كتم صوتها؟ سيخترق صوتهم بلا شكّ جدران العدلية، وإن لاذ قضاتها بالصمت متذرّعين بالعطلة القضائية. يحصل كل هذا ولا يرفّ للقضاء جفن. اسم قاضي التحقيق غاب عن الذاكرة، غيّبوه وأسكتوه حتى صار هو أيضاً مجهول محل الإقامة والمصير.
منذ نهاية عهد الرئيس ميشال عون لم يحرّك ملف التحقيق بجريمة المرفأ. كانت القضية سبباً لمقاضاة عهده بالسياسة، بعده لم تحرّك الحكومة ساكناً بخصوص التحقيق ولم يعرف مصيره، فهل انضمّ الملف الى جملة الملفات التي صارت في غياهب النسيان؟ ليست ذكرى انفجار المرفأ وحدها الأليمة، بل يسكن الألم في يوميات بلد متفلّت من العقاب، وكل من له ثأر يرتكب جريمة ويبقى بمنأى عن المحاسبة. بات لبنان بلداً لا يُعاقب فيه المجرم ولا يُنصر فيه المظلوم، والغلبة للظالم والجائر على الحق.
في لبنان المقبل على استخراج النفط، هل يعتقد المسؤولون فيه أنهم قادرون على كسب ثقة الناس مجدّداً واستعادة الثقة الخارجية بالبلد في ظل غياب قضاء قوي نزيه ومحايد بدل قضاء مرتهن يأتمر بأوامر أمراء السياسة وينتظر الإشارات من الخارج؟ في لبنان جرائم بالجملة ومرتكبون ولا وجود لمتّهم واحد.