كتب مايز عبيد في “نداء الوطن”:
تتغير مدينة طرابلس بفعل الأزمات المتلاحقة وتتبدّل طبائع أهلها وعاداتهم. فما كان ممكناً في السابق لم يعد ممكناً اليوم، حيث أرخت الأزمات بثقلها على المواطن اللبناني والطرابلسي بطبيعة الحال، فجعلته يتخلّى عن كثير من الأشياء التي يحب، من أجل تقطيع هذا الوقت الصعب بأقل الأضرار.
حتى القهوة هجرها أحبابها
كان يستحيل على اي مواطن طرابلسي أو زائر للمدينة ان يمر في شوارعها وأحيائها، من دون أن يشرب القهوة التركية الطرابلسية المعروفة بقهوة المصبات. هي قهوة تركية خفيفة، من تراث المدينة وتاريخها، حيث يجول أصحاب المصبات في الشوارع لبيعها إلى المارة أو الجالسين في المنشية، وحتى للموظفين في مكاتبهم ومؤسساتهم. إلى جانب الباعة الجوالين، ثمة معلمو قهوة يتمركزون ببسطاتهم أو أكشاكهم عند نقاط معينة، في ساحة التل أو شارع عزمي أو في ساحتي النور والنجمة وغيرها من المناطق الطرابلسية، ولكل منهم زبائنه وعشاق قهوته من طرابلس وخارجها. وعندما تتحدث عن بائع قهوة ثابت في أحد الأمكنة في المدينة فهذا يعني أنه فنان ومعلم ماهر في صناعة القهوة الطرابلسية، وليس كأي بائع جوال تراه لمرة واحدة والسلام، فعنده يتحلق الأصحاب وتدور الأحاديث في كل شؤون وشجون المدينة والبلد على فنجان قهوة.
استطاعت الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تضرب البلاد منذ أكثر من سنتين، أن تعصف بالعديد من القطاعات والصناعات التي تعتاش منها العائلات الطرابلسية، ومنها بطبيعة الحال صناعة القهوة الطرابلسية. فالقهوة في فنجان البلاستيك الصغير، أو فنجان الزجاج القديم، أم الـ250 ليرة التي كانت “فشة الخلق” لدى الكثيرين لا سيما فقراء المدينة، يأتي إليها الشخص ليرتاح ويجلس ويدندن مع أصحابه على مرّ الفنجان أو حلوه، صارت هي بحد ذاتها مجلبة لـ”طلوع الخلق”؛ بعدما ارتفع سعر الفنجان الواحد منذ أشهر إلى اليوم من 250 ليرة قبل الأزمة إلى 750 ليرة وصولاً إلى 2000 ليرة لبنانية هذه الأيام. فنجان القهوة الذي لم يكن أحدٌ يحسب له حساباً، أصبح سعره بحاجة إلى حسابات وضرب وطرح، خصوصاً أنه عند شرائه لا بد من شراء سيجارة أو قنينة ماء أو شوكولا أو غيرها، وهي جميعها باتت أموراً فوق قدرة المواطن الشرائية.
أحمد ملاحية من سكان الزاهرية في طرابلس هو صاحب كشك أو بسطة قهوة في ساحة التل منذ سنوات، وقد ورث هذه المهنة عن والده. يصنع ملاحية القهوة التركية التي تسمى بلغة أهل المدينة، القهوة الطرابلسية، ولطالما تحلّق الزبائن حول قهوته قبالة حديقة المنشية، على أحاديث وسير ولعب ورق أو داما، والتمتع بمنظر الناس تسرح وتمرح وسط المدينة.
بحسب ما يشير ملاحية في حديثه إلى “نداء الوطن” فإن كل شيء تغير في طرابلس وصولاً إلى فنجان القهوة. ويقول: “لقد ارتفعت اسعار كل المواد للأسف، فنجان القهوة اليوم بـ2000 ليرة وإذا كانت في محل عادي وليس بسطة فسعره بات 5000 ليرة بعدما كان 250 ليرة في السابق، في كل شوارع طرابلس”.
ويتابع “أعرف الكثير من الزبائن لا يكاد يمر يوم من دون ان يشربوا فنجان قهوة واحد أو أكثر أو استضافة أصحابهم، لكن الوضع اليوم اختلف، والآن ومع كل هذا الغلاء، جزء كبير منهم لم نعد نراهم. بالتأكيد فقد تراجع العمل لدينا والمدخول لأكثر من النصف، فكل مكونات القهوة من سكر وهال وقهوة ومياه وفناجين… كلها ارتفعت أسعارها. تخيّل أن كيلو الهال أصبح بـ 450 ألف ليرة، وكيلو القهوة يتجاوز الـ 150 ألف ليرة. أما نحن فأحوالنا لم تعد كما كانت في السابق، وأحياناً بيخلص النهار وبتطلع مكسور على عمل يوم كامل”.
ورداً على سؤال يقول ملاحية: “أعيش بما تيسّر ولا يزال هناك أولاد بلد طيبون تقول لهم الفنجان بألفي ليرة فيعطونك أربعة أو خمسة رغم قلتهم… هناك أشخاص من طبقات طرابلس الفقيرة كانوا يشربون القهوة في زمن الـ 250 والـ 750 ويقولون لك: (جمعهم بكرا أو بعدو أو آخر الأسبوع بندفعلك).. هؤلاء لم أعد أراهم أبداً، والسبب ضيق أوضاعهم بدون أدنى شك”.
ويؤكد ملاحية أن “طرابلس وأيام العز فيها صارت حرقة في القلب… أنا رح أنتخب ورح فش خلقي رح شوف مين في جديد وقادر على التغيير لأنتخبه”. ويختم “لا أوجّه أي تحية لأي مسؤول في الدولة وأقول لهم الله لا يوفقكن أنتو دمرتو البلد والانتخابات الجاي الورقة رح تحكي”.
مؤسف أنه في زمن الإنهيار يتخلى الطرابلسي الفقير عن كل شيء حتى عن فنجان القهوة الصغير الذي كان رفيق دربه وعمله. وعندما يفعل ذلك، سيتضرّر عشرات أصحاب الأكشاك وبالتالي عشرات العائلات من أبناء المدينة، تماماً كما تضرر المواطن الطرابلسي بالدرجة الأولى من الأزمة فحرمته حتى من شرب القهوة.