كتب زياد شبيب في “النهار”:
منذ مطلع تسعينات القرن الماضي حصل الكثير من الانحرافات في تفسير نصوص الدستور وتطبيقها، وأحد أبرز تلك الانحرافات ما سُمّي الميثاقية التي انطلقت من نص الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي تقول انه “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
المشكلة في المنحى الرائج بتفسير هذه الفقرة هي أن عدداً من القوى السياسية الطائفية يحتكر كامل أو معظم المقاعد النيابية المخصصة للمواطنين المنتمين إلى طائفته. وانطلاقاً من هذا الاحتكار وبالاستناد إليه تعتبر تلك القوى أن غيابها عن المشاركة في هذه أو تلك من السلطات، يساوي غياب الطائفة برمّتها وبالتالي فقدان “الميثاقية”. وقد ترسخت هذه الممارسة وأصبحت وسيلة لتحقيق المكاسب ولممارسة التعطيل المتبادل خصوصا بين الطوائف الأربع التي سعت الى الاحتكار أو حققته، أي الموارنة والسنّة والشيعة والدروز.
الميثاق، أي اتفاق الطائف المعدل واقعاً في اتفاق الدوحة العام 2008، قد أصبح مشوّه التطبيق وفقد القدرة على تحقيق الغاية منه بسبب هذا المنحى في التفسير.
في العام 1990 عندما أدخِلت التعديلات الدستورية الجديدة التي أقرّتها وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وأضيفت بموجبها مقدمة الدستور، أعطى إدمون ربّاط الذي كان مستشار مجلس النواب اللبناني ووضع مؤلّف “التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري”، الشرح الصحيح لهذه المقدمة وما ورد فيها من مبادئ، وتناول بطبيعة الحال الفقرة (ي) الشهيرة.
وصف ربّاط المبدأ الذي نصت عليه بأنه: “مبدأ خطير وخطر جداً، لأن من شأنه أن يجعل كل رئيس جمهورية، وكل حكومة، وكل مسؤول، معرّضاً للإقالة والمقاومة، إذا ما توجهت إليه التهمة بأن من سياسته ومواقفه وأفعاله قد تظهر بوادر الانقسامات الطائفية. وبات لكل مواطن أن يلجأ إلى هذا السلاح الحاد، إذا ما بدا له أن ثمة عملاً أو سياسة أو اتجاهاً، من شأنه أن يهدد “ميثاق العيش المشترك”، أي العيش الجامع بين اللبنانيين كافة”.
الميثاقية إذاً، وفق التفسير الصحيح للفقرة (ي)، هي أن تُعتبر أية سلطة غير شرعية إذا تصرّف مَن يشغلها بصورة طائفية أو تسبب بانقسامات طائفية.
هذا هو التفسير الصحيح، أما الاحتكار الطائفي للمقاعد المخصصة في البرلمان والحكومة لأبناء طائفة من الطوائف اللبنانية، وحجب مشاركة شاغلي تلك المقاعد في عمل المؤسسات الدستورية في إطار الصراع السياسي، إنما هو الخرق الأشد وضوحاً لميثاق العيش المشترك. وما كانت الفقرة الأخيرة من مقدمة الدستور لتفسّر على النحو المشوّه هذا، لولا الطائفية الفاقعة التي يتكون منها ويمارسها القابضون على السلطة وعلى التمثيل في طوائفهم وبعض الطوائف الأخرى الملحقة بهم قسراً.
إن الميثاقية بمعناها المشوّه، قد تسببت بالكثير من الأزمات الدستورية في السنوات الماضية، حيث أصبح تطبيقها يعني أن بإمكان مَن يدّعي تمثيل الطائفة أن يمتنع عن المشاركة في تكوين أو عمل أية مؤسسة، أو أن ينسحب منها عندما يجد أن مصالحه غير مؤمّنة. ويترتب على هذا أن المؤسسة تصبح “غير ميثاقية” وتتعطل.
واليوم بعد تراكم الأزمات والكوارث وبعد تفجير بيروت الذي تفجر معه كل شيء، وبعد محاولات تفجير التحقيق في تلك الجريمة وكل ما رافقها من انقسامات، أصبحت الحلول الجذرية مطلوبة، والميثاق الوطني الحقيقي يجب أن يقوم على المواطنة الحقّة التي تساوي بين اللبنانيين أمام القانون، وعلى الفصل بين الحيّز العام المشترك الذي يجتمع فيه اللبنانيون بصفتهم مواطنين وبين الحيّز الطائفي الديني الذي يختص بهذا الشأن حصراً، والذي ينبغي إبعاده عن الشأن السياسي وعدم إقحامه في الصراع على السلطة.