لم تعد غرف القرار في وادي السيليكون بعيدة عن ساحات غزة، ولم تعد تقنيات الذكاء الاصطناعي مجرّد أدوات حيادية تُباع لمن يدفع أكثر. العالم يتغيّر، والضمير العالمي بدأ يصحو، لا من باب الشفقة، بل من باب الحقيقة. الحقيقة التي لم تعد إسرائيل قادرة على دفنها، لا بالقوة، ولا بالدعاية، ولا بشراكتها العميقة مع كبريات الشركات العالمية.
ما كشفته صحيفة “فايننشال تايمز” عن تمرّد نحو 300 موظف في شركة “جوجل ديب مايند” ببريطانيا، وسعيهم لتشكيل نقابة رفضًا لعلاقة الشركة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، ليس تفصيلًا عابرًا في خبر تقني. إنه هزّة أخلاقية في عمق بنية التكنولوجيا الغربية التي طالما صمتت عن الدم الفلسطيني.
الموظفون لم يعودوا مجرد مبرمجين خلف الشاشات، بل صاروا شهودًا على الجرائم. أحد المهندسين قالها بصراحة: “نحن نجمع بين الأمرين، ونعتقد أن التكنولوجيا التي نطورها تُستخدم في الحرب على غزة”. هذه الجملة وحدها تُسقط أقنعة كثيرة: عن “الحياد”، عن “الابتكار”، وعن “الشراكة” التي تباهت بها إسرائيل لعقود مع وادي السيليكون.
مشروع “نيمبوس”، اتفاق الحوسبة السحابية بين إسرائيل وجوجل وأمازون بقيمة 1.2 مليار دولار، لم يعد مجرّد صفقة تكنولوجية، بل صار وصمة عار تُلاحق الشركة وتُحرج موظفيها. خمسة أشخاص استقالوا في شهرين فقط من “ديب مايند”، احتجاجًا على هذا التواطؤ العلني. وهذا ليس إلا البداية.
إسرائيل اليوم تخسر جبهتها الأخلاقية، لا فقط في الجامعات والمظاهرات، بل في عمق النظام التكنولوجي العالمي الذي كانت تفاخر بأنها شريك استراتيجي فيه. وها هو هذا النظام يرفضها، يُحاكمها، ويتمرد على شراكتها، لأنها لم تعد قابلة للتبرير، لا أخلاقيًا ولا إنسانيًا.
الذكاء الاصطناعي كشف ما حاول الإعلام الموجّه تغطيته. وما يجري اليوم هو بداية تساقط الأقنعة. إسرائيل التي طالما تباهت بأنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، أصبحت عبئًا على من يدّعون الحرية في الغرب. حتى داخل غرف الخوادم والبرمجة، صار اسمها ثقيلًا، ومشروعها مرعبًا، وسياستها محل مساءلة.
نحن أمام تحوّل حقيقي. لسنا أمام تمرّد موظفين فحسب، بل بداية إعادة تعريف من هو القاتل ومن هو الضحية في سردية العصر الرقمي. التكنولوجيا لا تخدع، ومن طوّعها للقتل، سيجدها يومًا تفضحه.
في زمنٍ تُختطف فيه الكلمات وتُشوَّه فيه المعايير، تأتي التكنولوجيا لتقول كلمتها بوضوح: لا يمكن تلميع القتل، ولا يمكن تغليف الاحتلال بواجهة رقمية. إسرائيل تُحاصر اليوم ليس فقط من مقاومة ميدانية، بل من رفض عالمي يتسلل من العقول إلى الشاشات. هذا الرفض لا يُشترى، ولا يُسكت، لأنه صادر عن ضمير لم تقتله لا الحروب ولا الصفقات. والآتي أعظم.
مكاريو٢١ مارسيل راشد