كتب شارل جبور في صحيفة الجمهورية
المدخل الوحيد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يكمن في تراجع أحد المكونات الثلاثة عن موقفه: المعارضة، الممانعة أو «التيار الوطني الحر»، فمن يتراجع أولاً؟ لم تحصل انتخابات العام 2016 إلّا بعد تَبدُّل التَموضعات او التحالفات السياسية، فلم تحصل بضغط خارجي، ولو استمر الستاتيكو السلبي لما حصلت او كانت أنتجت رئاسة وسطية، والعبرة من ذلك انّ ميزان القوى الداخلي وحده القادِر على فتح باب رئاسة الجمهورية.
فمهمة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان لن تقود إلى اي نتيجة ما لم تبدِّل القوى السياسية في مواقفها، وكما سقطت المبادرة الفرنسية بحلّتها الأولى فإنّ المحاولة الثانية ستلقى المصير نفسه، والسبب في ذلك انّ قدرة الخارج على التدخُّل محدودة، ولم يعد هذا الخارج يستخدم العصا من قبيل فرض عقوبات على من يُفقد نصاب الجلسات الانتخابية، فهو يلوِّح ويقف عند هذه الحدود، فيما الفريق الأكثر تأثّراً بالخارج هو «حزب الله»، ولكن مرجعيته الإيرانية تقول لكل من يراجعها انها لا تتدخّل مع الحزب في خياراته اللبنانية.
وطالما لم تَنوَجِد إرادة التلاقي في منتصف الطريق، فعبثاً البحث عن رئاسة ستبقى شاغرة من دون أفق، فيما شكّل التقاطع بين المعارضة التعددية و»التيار الوطني الحر» خطوة باتجاه التوافق ضمن المساحة المشتركة، إلا ان إصرار الثنائي الحزبي الشيعي على مرشحه من جهة، وعلى رفض الدورات الانتخابية المتتالية من جهة أخرى، ما زال يحول دون إنهاء الشغور الرئاسي.
فلا تغيير إذاً بالمُعطى الرئاسي السلبي قبل ان تتغيّر المعطيات الداخلية، والتي تتطلّب مبدئياً تراجع أحد المكونات الثلاثة:
أولاً، تراجع ثنائي «حزب الله» وحركة «أمل» عن دعم ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، ولكن لا مؤشرات إلى ان الثنائي في هذا الوارد حتى اللحظة، ولا بل يؤكِّد في كل مناسبة انه لن يتراجع ويتحدّث عن نفسه الطويل، وهناك من يقول ان التراجع أصبح مرتبطاً بصورة السيد حسن نصرالله وقدرته على ترجمة كلمته وتعهده من عدمهما، كما ان التراجع يعني تَخلّياً عن استراتيجية الحزب بإمساك الدولة من رأسها، وبالتالي لا التراجع لاعتبارات معنوية وارد، ولا كذلك لاعتبارات عملية.
وبعد ان أساء السيد نصرالله التقدير بأنّ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لن يكسفه وسيتفهّم ضرورات انتخاب فرنجية في ظل استحالة انتخابه، وبعد ان أساء الرئيس نبيه بري التقدير بأنّ المبادرة الفرنسية ستشق طريقها من باريس مروراً بالرياض وصولاً إلى بيروت، فإنّ رهان الحزب على إقناع باسيل بفرنجية تجدّد في الأسابيع الأخيرة.
ثانياً، تراجع المعارضة عن رفضها مرشّح الممانعة، ولكن لا مؤشرات إلى انّ المعارضة في هذا الوارد، ولن تتراجع عن موقفها ولو استمر الشغور لسنوات لسببين: الأول معنوي رفضاً لتكريس فكرة الانصياع لإرادة السيد نصرالله، وما حصل في العام 2016 ليس انصياعاً وكانت له ظروفه وحيثياته ولن يتحوّل إلى قاعدة، والثاني عملي سعياً للخروج من الانهيار والذي يستحيل تحقيقه عن طريق رئاسة مُمانعة والدليل انه منذ الانهيار الكبير السلطة بيد الممانعة ولم تنجح لا بفرملة الانهيار ولا بوضع الخطط للخروج منه.
فالمعارضة لن تُبرم اي تسوية مع الممانعة على مرشحها، واي تسوية محتملة تكون على نسق العام 2008 من خلال انتخاب مرشّح وسطي، وقد تم آنذاك استبعاد العماد عون الذي كان يحظى بدعم الحزب. وبالتالي، حتى لو تمكّن الحزب بسِحر ساحر من انتخاب مرشحه، فالمعارضة ستبقى في المعارضة ولن تمنحه اي فترة سماح.
ثالثاً، تراجع النائب باسيل عن رفضه دعم ترشيح النائب السابق فرنجية، ويبدو ان هناك مؤشرات بأنّ باسيل يتجه إلى التراجع عن موقفه الرافض، وذلك على رغم انه صالَ وجال رفضاً لفرنجية، وانتقد الحزب علناً على خياره، وانتقل من الرفض إلى التقاطع مع خصوم الحزب على مرشّح آخر. وبالتالي، على رغم كل ذلك أطلق جملة مواقف في مناسبتين متتاليتين تؤشر إلى بداية تموضع رئاسي جديد.
والكلام هنا عن مواقف لباسيل وليس عن تحليل سياسي، وقد قال حرفياً: «ثمن مرشحهم لرئاسة الجمهورية بالنسبة لنا لن يكون أقل من لامركزية موسّعة يدفع ثمنها سلفاً عبر إقرارها بقانون، وصندوق ائتماني يدفع ثمنه سلفاً أيضاً عبر إقراره بقانون، وبرنامج بناء الدولة»؛ «لن نغيّر موقفنا دون مقابل وطني كبير يستفيد منه كل اللبنانيين وكل رهان غير ذلك هو ساقط»؛ «نحنا حاضرين لكل المخارج ولو اضطررنا لدفع الأثمان»؛ «أنا أتحمّل مسؤولية التنازل عن الاسم مقابل أخذ مَكسَبين»؛ «أنا على استعداد للتضحية لـ6 سنوات»؛ «عندما تحدثنا عن التضحية قصدنا إسم الرئيس، وليس بالرئاسة وصلاحياتها».
وما تقدّم صادر عن باسيل شخصياً وهو بمثابة تطور كبير وكلامه لا يحتاج إلى تفسير، ومن الواضح انه يجسّ نبض التعامل مع موقفه، ويوسِّع «تكويعته» الرئاسية تمهيداً لتبنّيه فرنجية تحت عباءة عناوين برّاقة وعريضة، وهذه العناوين لا تمرّ على أحد، لأن اللامركزية والصندوق السيادي هما حقّ من حقوق جميع اللبنانيين لا المسيحيين فقط، واللامركزية منصوص عليها في الدستور ويجب إقرارها وتطبيقها، والصندوق يجب ان يُنشأ شرط إبعاده عن منظومة الفساد تَجنّباً لتبديد الثروة النفطية كما بَدّد تعب الناس وجنى عمرها، وبالتالي المقايضة ليس فقط مرفوضة، إنما ساقطة كون شروطها غير متوافرة وهي تعني التنازل المتبادل وليس التنازل الواضح رئاسياً مقابل تَمنين اللبنانيين بما هو جزء من حقوقهم ودستورهم.
ويعلم باسيل ان إقرار اللامركزية يتوقّف على إرادة مجلس النواب، والاشتراط بإقرارها قبل ان يوافق على انتخاب فرنجية يصطدم بجدار رفض المعارضة التشريع في ظل الشغور الذي يتحول معه المجلس إلى هيئة ناخبة، إلا في حال كان يريد استخدام هذه الورقة للمزايدة في كل الاتجاهات، والتذرُّع بعدم تبنّي الترشيح قبل تشريع مطالبه، اي مناورة لخطف الأضواء، ولكن بمعزل عن كل شيء لا يمكن إلا التوقُّف أمام كلامه الذي يؤشر إلى بداية تموضع جديد رئاسيا.
وهنا لا بدّ من طرح بعض الأسئلة: هل تقاطع باسيل مع الحزب على فرنجية يؤدي إلى انتخابه؟ وهل هذه الخطوة تشجِّع كتلة «الاشتراكي» والكتل السنية، التي لم تحسم موقفها بعد، على تأييد رئيس «المردة» أم تُبقي على موقفها؟ وهل المعارضة ستستخدم الثلث المعطِّل ام تحمِّل من ينتخب مرشّح الممانعة مسؤولية استمرار الانهيار؟ وهل تستطيع الممانعة ان تحكم في ظل معارضة شرسة في وجهها، فيما الخروج من الانهيار يتطلّب أوسع توافق وليس توسيع رقعة الخلاف والانقسام؟ وهل يحاول من خلال هذا الطرح شراء الوقت بانتظار انتهاء ولاية قائد الجيش؟
وفي الوقت الذي تتمسّك فيه المعارضة بموقفها الرافض انتخاب مرشّح الممانعة وتصرّ على ضرورة انتخاب رئيس لا يخضع لموازين القوى، وفي الوقت الذي يتمسّك فيه «حزب الله» بموقفه الرافض التراجع عن مرشحه ويجزم بأنه لن يغيِّر موقفه، وقد أكد النائب محمد رعد «ما زلنا على موقفنا، لم نغيّر ولن نبدِّل». وبالتالي، في هذا الوقت بالذات بدأت بوادر التراجع تطل برأسها مع النائب باسيل، فالمواقف التي أطلقها هي مواقف تراجعية ولم يكن بحاجة لإطلاقها لو لم يكن لديه النية والاستعداد للتقاطع مع الحزب رئاسياً.
ولكن، ما الذي جعل باسيل ينتقل من ضفة الرفض إلى ضفة القبول؟ ثلاثة أسباب قد تكون خلف تموضعه الجديد: الأول ان يكون هناك مَن حَذّره بأنّ الدول الخمس التي اجتمعت في الدوحة ترى بأنّ المخرج الرئاسي يتم عن طريق قائد الجيش جوزف عون، وهو يعتبر بأنه بين السيئ (فرنجية) والأسوأ (عون) يختار الأول. الثاني ان يكون «حزب الله» الذي بادر إلى الحوار معه قد أغراه بشيء معيّن يصعب يرفضه، لأنّ تَراجعه عن موقفه حصل بعد تجدُّد اللقاءات بينهما. الثالث ان يكون قد أجرى مراجعة خرجَ بموجبها بخلاصة مفادها ان التحالف مع الحزب «رَبّيح»، والتجربة أقوى دليل وزارياً ونيابياً ورئاسياً.
فالذي تراجع أولاً هو النائب باسيل، ومبررات تراجعه غير قابلة للتسويق، وهو دليل ضعف وتخبُّط.