كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
مثلما هناك “ناس بسمن وآخرون بزيت”، هناك ثوار مزيّفون وآخرون حقيقيون، وثوار يتحلّون بالصلابة وثوار يتّصفون بالـ”ميوعة”، وهناك من يندسون ليقلبوا المشهد رأساً على عقب، لمصلحة سلطة تستشعر الخطر، ومن يتناتشون الميكروفون ليقولوا: نحن أو لا أحد، وهناك أيضاً من يدّعون الثورة وهم عائمون على فساد… وفجأة، بين هؤلاء وأولئك، أطلّ ويليام نون، فرُفعت له الأيدي والقلوب، ونُثر عليه الرز، وقيل: هذا هو البطل. فهل نحن أمام ثائر خارق أم أننا أمام ثائر باسمِ الدم المراق، وثورة الدم أقوى من كل الثورات، أم أننا نحاول، لشدةِ الخناق، إلتماس مشروع بطل؟
اليوم هو الأول من إيلول. وقبل أيام تسعة، في 23 آب، كانت ذكرى انتخاب الحلم – الثائر البشير. وبعد شهر ونصف الشهر نحتفي بذكرى ثورة 17 تشرين الأول الثانية، وبعدها بأشهر ستحل ذكرى ثورة 14 آذار، وبعدها بأشهر تعود وتحل ذكرى جريمة 4 آب التي جددت الثورة. تواريخ تواريخ، تختلف والهاجس في كلّها: هل نعيش بالفعل، لا بمجرد القول، ثورة حقيقية؟
فلنسأل الأكاديمية الثائرة أبداً منى فياض. هل نعيش ثورة مزيفة أم حقيقية؟ هل مكتوب علينا ان ننتقل من “ثورة” الى “ثورة” ويطل في كل مرة من ينخرها، في الخفاء، بدبوس مسنّن فتتشلع؟ وهل هناك ثوّار صلبون وآخرون “مائعون”؟
منى فياض تتحدث عن ثورة دائمة في النفوس وتقول “نحن، في معظم الأحيان، نتعامل مع الثورة كحزب. في حين أن الثورة تُحدد عالمياً وفق مقاييس عدة. هناك من يقول إنها تتكوّن حين ينزل على الأرض 3 ونصف في المئة من السكان او 5 في المئة منهم. وهناك ثورات بيضاء وثورات بالدم وثورات عبثية وهناك ثورات سلمية كما ثورة غاندي. لكن، ما يتجاهله كثيرون هو ان الثورات عبر التاريخ تغيّرت. ونحن، في لبنان، ثورتنا أتت عفوية وحقيقية وغير عنفية. نزل فيها مختلف شرائح الشعب، لا الطبقة الفقيرة وحدها، ومعلوم أنه حين تنزل الطبقة الوسطى تكون الثورة قد وصلت الى عموم الشعب. نزلوا يهتفون كلن يعني كلن لكن، في بدايات الثورة، وقعوا في خطأ استثناء سلاح “حزب الله”. وبعد ثلاثة أيام أرسل الحزب “زعرانه” والشبيحة. وأصبح في كل مرة ينزل فيها الشعب يواجَه بالعنف. والناس، عموم الناس، لا يريدون العنف والسقوط مجدداً في حرب أهلية. وهكذا استطاع “حزب الله” مواجهة ثورة الناس مستخدماً كل أدواته. نجح هو وأدواته في “خردقة” الثورة من الداخل وتوجيهها نحو أشخاص محددين مثل رياض سلامة. صحيح ان الأخير مشارك ولم يقم بحفظ الأمانة لكنه، في البعد، كان مستقوياً في ما فعل بمن صادروا كل البلد وفسادهم على مساحة الوطن. رياض سلامة أداة، ساهم في إفلاس البلد، لكنه ليس المشكلة الوحيدة، لكن “المخردقين” صوروا الصورة على هذا الشكل. وأتى انفجار 4 آب ليصحح مسار الثورة. أعادت تلك الجريمة الهائلة تصويب الأمور. ويومها تجرأ “الثوار” على رفع مشنقة حسن نصرالله. ومنذ ذاك الحين بدأت لعبة الخردقة في “تفليس البلد” لدفعه الى مؤتمر تأسيسي وفتح حوار مع الأميركيين. نجح “المخردقون” في إلهاء الناس بحالِها. عرفت فئات كثيرة عدوها لكن عموم الناس التهوا بحالهم بعدما بدأت السلطة الفاسدة تُخرج “بعبعاً” يومياً لإلهاء الناس”.
ماذا عن “الثورة” المتجددة؟ ماذا عن ثورة ويليام نون ورفاقه؟
لعلّ التنافس الذي عاشه “الثوار الأولون” وصوت “الإيكو” في دواخلهم و”أنا او لا أحد” هو الذي دفع البعض الى القول “نحن الثوار الحقيقيون”. نحن الثورة الحقيقية.
منى فياض تقول “القائد لا يقول أنا القائد بل الناس هم من يختارون مَن يتكلم باسمهم. الناس بحاجة الى أمل. ويفترض بهم أن يشاركوا من يرون في حراكه حراكهم بخطوات على الأرض. فالثورة لا تقوم على من أفرزتهم الثورة وحدهم ومن ادعوا الثورة. هؤلاء لا يكفون لتكوين ثورة. الثورة تكون بمشاركة كل “البائسين اليائسين” كي ينزلوا على الأرض وكي يوجهوا أصابع الإتهام الى من دفعهم الى القعر. وهم من يحددون “القائد” أو القيادة”.
نرى من يقولون عن أنفسهم “ثواراً” لكن، الناس يبحثون في تاريخ هؤلاء فيجدونهم غالباً، وفق معاييرهم، غير مؤهلين. ويوم ظهر ويليام نون، بلغته الشعبية، ووجعه الهائل، وحزنه الكبير على شقيق وجده أشلاء، كما قلوب اللبنانيين المشلعة البائسة، رأى فيه كثيرون الشاب القادر أن يتحدث بألسنتهم. هو يشتم من تليق بهم كل الشتائم. وهو قادر أن يقول للقتلة والفاسدين “رح نجيب حقّ الضحايا من زلاعيمكم”. هو قال ما يريدون قوله. فاستحق أن يُرشّ بالرز. هو نزل مع رفاقه الى المجلس ومنع النواب من الوصول. وهم يريدون أقوالاً وأفعالاً. لهذا اعتبروه الشقيق والإبن والثائر.
الإختصاصية في علم الإجتماع الإعلامي جوزيان خوري تراقب الأرض وتقول “هناك خصائص عدة يفترض أن تتضافر في من يدعي القيادة أو من يُصنف قائداً وهي: الشخصية الكاريزماتية وأن يعرف أكثر من غيره ويكون محبوباً ولديه قدرة ونفوذ. أحياناً قد يولد “قيادي” لا يستحوذ كل هذه الشروط” وتستطرد خوري بالقول “يفترض بالقائد أن يعبر عن “صرخة الناس”، عن صرختي. عن صرختكم. لكن، من يُعبّر ذات لحظة قد يعود وينسحب من “الكادر” الذي وضع فيه إذا افتقر الى الصفات الأساسية. الثائر القادر على القيادة والضم هو الذي يتحلى بالمقومات الكافية ليتابع، لأن الشارع المقابل ليس صامتاً بل يتحرك أيضاً ويفرز”.
“الخوف، بحسب خوري، عنصر أساسي في الثورات. فهناك من يرغبون في “الثورة” لكنهم يخشون إذا عبّروا وشاركوا من النزر القليل الذي ما زالوا يمتلكونه. هؤلاء يخشون من المجهول. الخوف عامل اساسي يجعل الناس تتريث خصوصاً حين يفقدون الثقة بإمكانية التغيير، فيطغى عليهم الشعور الإنهزامي”. هذا ربما ما يعيشه كثيرون الآن.
كثيرون يشعرون الآن بالغضب مقروناً بالإنهزام. فمتى يتغلب الغضب على كل ما عداه؟ تجيب خوري “هناك مسار معين لا يتغيّر إلا لسبب كبير. ضربة اقوى من كل سابقاتها تقلب كلّ المشهد فتتجدد الإنتفاضة وتتسع”.
ويليام نون عَكَسَ بعض هذا الغضب الكامن في النفوس، فهو، لكونه شقيق ضحية، استطاع ان يلعب دوراً يعجز عنه حتى من يتمتع بكل الصفات القيادية ويمتلك فيضاً من ثورة لكن لا أحد يعرفه. إنه كمن يدخل الى صالة عزاء الكل يبكون فيها لكن جميع المعزين يتأثرون ببكاء الأم الثكلى دون كل الآخرين”.
ما رأي من شاركوا في “ثورات” سابقة ويعرفون “لعبة السلطة” التي تدفع الى الأمام بثوار مزيفين بهدف البلبلة وتغيير كل الصورة؟
نجحت السلطة في “تجميد الثورة” وإعادة جذب بعض “الثوار” الى خندقها. وكلنا نتذكر هلعها في اول يومين او ثلاثة من اندلاع الثورة في 17 تشرين، لكنها نجحت، للأسف، في شراء الوقت. هي اشترت وقتاً يتيح لها إعداد مكيدة من مكائدها. وأتى شعار “كلن يعني كلن” ليُشكّل فجوة ترتقي الى مستوى الخطيئة، كون الثوار شملوا كل الأطراف، بغض النظر عما اقترفه كل طرف. ومن يرفع شعاراً “مبهبطاً” واسعاً لا يصل الى مكان. خطأ ثوار 17 تشرين لم يقع فيه ثوار 14 آذار الذين وضعوا خطاً فاصلاً بين ما قبل 14 آذار وما بعده. فشلت ثورة 17 تشرين، على الأقل في الصمود بذات الزخم الأول الجميل، بسبب الإختراقات التي طالتها. ما رأي الثوار القدامى بظاهرة ويليام نون؟ يجيب أحد الثائرين الدائمين: ويليام نجح في مكان ما بفرض إيقاع لكنه غير كاف. المطلوب في كل ثورة إطار مشروع سياسي وطني.
الوضع “مش ماشي”. الثورة مجمدة. وهناك أجندات خاصة لكثير من الثوار ما أضاع البوصلة. فهل الثورة المنشودة القادرة على تجديد بنيتها بحاجة الى أمثال ويليام نون؟
صوت ثائر في أحد الفنادق التي استضافت “لقاء ثوار” يرن: “بدأنا في إضاعة البوصلة… مكاننا في خيمة لا في فندق”. نعم، الثورة تمرّ في مخاض وتجارب، تتمهل، تشتد، تتراجع، تتقدم وتتجدد وقد تعود وتتراخى. الثورة في لبنان بحاجة اليوم، أكثر من أي يوم آخر، الى أن تتجدد. واللبنانيون الطيبون بحاجة الى ثورة مليئة بالعنفوان، بالصمود، بالأحلام، بالصبر. إنهم بحاجة الى ثورة غير محسوبة على السنتيمتر، تخدم هذا وتنفذ مآرب ذاك وتناسب أولئك وتتيح أمام فلان أن ينتقم من علتان ويُصفي معه حسابات قديمة على ظهر حصان (طروادة) الثورة. لهذا كله نحن بحاجة اليوم، وقبل فوات الأوان، الى أن تتجدد الثورة الحقّة التي فيها ثوار من خامات ويليام نون ورفاقه.