كتب زياد شبيب في “النهار”:
مشكلة لبنان المزمنة منذ التأسيس أن شعبه متنوع فيه مكونات دينية لم تنجح حتى اليوم بإقامة نظام حكم يقوم على المواطنة والمساواة والحكم المدني العادل في إطار جدّي من الضمانات لحماية التنوع وضمان عدم طغيان جماعة واحدة أو ائتلاف جماعتين أو أكثر على الآخرين.
رغم ذلك يجمع اليوم بين اللبنانيين، قاسم مشترك هو الانتماء إلى لبنان انتماءاً نهائياً ترسخ خلال مئة عام مضت بصراعاتها وويلاتها التي فصلت بينها هدنات نسبية شهدت ازدهاراً موقتاً. وهذا الانتماء أصبح عنصراً جامعاً يؤسس عليه لصياغة مستقبل الوطن رغم الانهيارات التي نعيشها راهناً.
في مقدمة الدستور، لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل. وتعبير “جمهورية” يأتي من الكلمة اللاتينية Res publica وهي تعني “الشأن العام”.
الشأن العام هو الجامع والقاسم المشترك بين المواطنين، والذي يجب أن يكون بطبيعته منفصلاً ومتمايزاً بشكل واضح عن الشأن المتعلق بالجماعات الدينية التي ينتمي إليها اللبنانيون والتي تبقى وتحفظ تراثها ويضمن القانون لها خصوصيتها وحرية معتقدها وشعائرها وحرية إدارة شؤونها.
بعبارة أخرى يجب أن تكون الجمهورية أو الشأن العام المرادف لها، مكاناً يجمع بين اللبنانيين ولا يتداخل مع الكيانات الطائفية الحالية التي سيطرت عليها مرجعيات سياسية ذات ارتكاز طائفي لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها، كما يقول وجيه قانصوه. كما سيطرت تلك المرجعيات على الجمهورية وعلى مؤسساتها الدستورية وأجهزتها ومواردها وقطاعاتها الاقتصادية والمالية وتقاسمت المواقع فيها وحولتها وسائل لتعزيز نفوذها واستخدمتها في إرغام المواطنين على التموضع خلفها والارتباط بها في علاقة تدمج الزبائنية بالحماية والانتماء الطائفي.
مفهوم الطائفة المهيمنة أو المتقدمة على الطوائف الأخرى مستمر منذ نشوء لبنان وقد طبقته بالتناوب وما تزال مرجعيات الطوائف الأكثر عدداً، مستخدمة عناصر قوة ومفاهيم وفلسفات عقائدية مختلفة. ولكن هذا لم ينجح طويلاً في الماضي ولن يكتب له النجاح اليوم.
ما يجب التفكير فيه جدياً خارج انتظار نتائج الاستحقاقات الانتخابية، هو صياغة مشروع جدّي طويل الأمد يقوم على أساس إعادة الاعتبار للشأن العام أو للجمهورية، والبداية تكون من تأسيس جماعات سياسية تكون وطنيّةً في تكوينها وخطابها وسياساتها وأهدافها، وصياغة ضمانات التوزيع العادل والمشاركة في السلطة على قاعدة المساواة بين المواطنين، وليس المساواة بين المرجعيات، وتطبيق نظام التمييز الإيجابي بين المواطنين التي يحفظ مكاناً للجميع ويضمن عدم إقصاء أي جماعة كما يحول دون السيطرة العددية.
هذا النظام الجديد سيصبح ضرورة للجميع. للخائفين أولاً من التراجع العددي لأنهم لن يستطيعوا الدفاع طويلاً عن النظام الحالي مع تفاقم الفوارق العددية، وعليهم أن يكونوا سباقين إلى اعتناقه لأن فيه ضمانة دائمة لوجودهم.
إن لبنان الدولة الديموقراطية المدنية المتنوعة، هو النقيض لدولة إسرائيل التي تقوم على حكم عنصر ديني واحد للشعب القائم على أرض فلسطين، وهي الأكثر اهتماماً ببقائنا طوائف متناحرة، على رأسها طائفة مهيمنة بين الحين والآخر.
مشروع الدولة الواحدة التي تجمع اليهود والعرب على أرض فلسطين مشروع العديد من المفكرين وعلى رأسهم إدوارد سعيد الذي اعتبر أنه “من الممكن الوصول بينهما إلى التعايش داخل دولة واحدة، ليس كأطراف متقاتلين ولكن كمواطنين متساوين، شريطة إنهاء الاستعلائية الإسرائيلية.” لماذا لا نبدأ بتطبيق نموذج نقيض لنظامها حتى إذا ما بدأت الهجرة المعاكسة منها يوماً ما يصبح لبنان النموذج الذي يطبق هنا وهناك وفي كل هذا الشرق.