لفت في نتائج الامتحانات الرسمية للشهادة الثانوية، حصول حوالي ٣٠٠ طالب من كافة فروع الشهادة الثانوية، على علامة كاملة في امتحان الفلسفة: ٣٠/٣٠ و ٣٥ /٣٥ و ٤٥/٤٥، بحسب الفرع.
الظاهرة تستحقّ التوقف عندها، وهي في الواقع استحوذت على اهتمام الرأي العام، الذي تبادل مواقف مختلفة ومتناقضة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي. منهم من اعتبر العلامة طبيعية، ومنهم من اعتبرها مبالغ فيها وغير متناسبة مع مادة الفلسفة، التي لا تُقيَّم كمواد أخرى كالرياضيات مثلاً، ولا تحتمل أجوبة من مثل صح أو خطأ، وبالتالي لا يمكن أن ينال الطالب عليها علامة كاملة، بل ما بين ١٥ و١٨ على عشرين كحدّ أقصى.
لا أعتقد بأنّه يمكننا حصر تفسير الأمر، برغبة الدولة والأساتذة بإنجاح أكبر عدد من الطلاب نظراً لظروف الحرب، ما أدّى إلى وضع علامات عالية على جميع المواد بما فيها مادة الفلسفة. فلمادة الفلسفة خصوصية، تمنع من حيث المبدأ، إعطاء علامات عالية جداً، وبالتالي وجب مناقشة الموضوع بما يتلاءم مع هذه الخصوصية.
غابت مسألتان عن النقاش في الموضوع، في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن للنقاش الجدّيّ أن يثمر من دونهما: أولاً، طبيعة أسئلة امتحانات الفلسفة في كافة الفروع؛ ثانياً، معايير تقييم امتحان الفلسفة.
أسئلة امتحانات الفلسفة، بشكل عام، بدأت بالطلب من الطالب أن “يشرح” الإشكالية المطروحة في قول من أقوال أحد المفكرين، ومن ثمّ أن “يناقش” هذا القول، وأخيرا أن “يعلّل” رأيه بخصوص سؤال إضافي حول القول المذكور. نحن أمام مسألة نسبية بالكامل على طرفي المعادلة: نسبية رأي المفكّر كمفكّر فرد، أولاً، ونسبية رأي الطالب، وهو يشرح ويناقش ويعلّل، ثانياً، فهوامش تعدد الآراء في الشرح والنقاش والتعليل، واسعة جدّاً.
لا مجال هنا لتقييمٍ مطلق، يحكم بالـ”صح” أو بالـ”خطأ” على رأي الطالب. لا سيّما أنّ معايير تقييم امتحان الفلسفة لا تحتمل هذا النوع من التقييم. فهي تريد أن تقيّم : كيفية طرح الاشكالية، المحاججة وما إذا كانت متناسقة وتدريجية، تحليل المفاهيم والقدرة على تبيان الفروقات في ما بينها، القدرة على استخدام الثقافة الفلسفية في معالجة الموضوع، قدرة فكر الطالب على الدخول في حوار مع نفسه. تطبيق كلّ هذه المعايير، يجعل من التقييم يعتمد على “رأي الأستاذ” في ما ورد في أجوبة الطالب، أكثر ممّا يعتمد على حسابات دقيقة ثابتة.
وقد أظهرت دراسة علمية حول تقييم امتحانات الفلسفة، أنّ الفرق بين علامات مجموعة من الأساتذة قيّموا الامتحانات نفسها، يمكن أن يصل إلى عشر علامات. أي أنّ العلامة في الواقع، إنّما تقيّم الأستاذ أكثر ممّا تقيّم الطالب. وهنا يكمن لبّ المعضلة.
فعندما يعطي الأستاذ نفسه الحقّ بإعطاء علامة كاملة على امتحان الفلسفة، يعني ذلك أنّه يعتبر نفسه مرجعية مطلقة، تحكم بالصح وبالخطأ في مجال الفلسفة. وهذا ادّعاء يتنكّر لماهية الفلسفة نفسها، التي تبدأ بتساؤل وتنتهي بتساؤل، وإلّا تحوّلت إلى عقيدة تمتلك الحقيقة المطلقة. “أنا أعرف أنّي لا أعرف شيئاً”، ردّدها سقراط، أستاذ الفلسفة الأوّل.
وجود ٣٠٠ علامة كاملة على امتحان الفلسفة، يعني أنّنا أمام ظاهرة تشمل أكثر من أستاذ، ما يجعلنا نعتقد أنّ الفكر المطلق انتقل من المجتمع والسياسة إلى المدرسة، من خلال الأساتذة. يصعب الجزم ما إذا كان هذا الفكر المطلق ذا مصدر فكريّ واحد، لكنّه بالتأكيد انعكاس لنزعة مجتمعية تميل نحو الأفكار العقائدية المطلقة بالمقارنة مع الأفكار النسبية، التي تتوافق مع التفكير الفلسفيّ.
التفكير الفلسفيّ يعيد النظر بالمسلّمات الفكرية بشكل عام، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والدينية، ما يفتح الباب أمام التغيير في مجتمع ما. فيما الفكر العقائديّ الثابت والمتحجّر، يقفل العقل ومعه أبواب التطوّر والتغيير.
العلامة الكاملة في الفلسفة التي يعطيها بعض الأساتذة للطلاب، معادلة لعلامة متدنية في مجال التفكير الفلسفي، التي يمكن أن نعطيها، دون تردّد، إلى هؤلاء الأساتذة.
قُتل سقراط بتهمة “إفساد الشباب”، من خلال جعلهم لا يتوقّفون عن طرح الأسئلة حول المسلمات المجتمعية. هل المقصود بوضع علامة كاملة على امتحان الفلسفة، إيهام شبابنا بأنّهم باتوا يعرفون الحقائق ولا حاجة لهم لطرح الأسئلة حول واقع مجتمعهم الذي غرق في الانحطاط الفكريّ والأخلاقي بغطاء عقائدي، ديني وسياسي؟
أكبر عملية إفساد للشباب، هي في إيهام عقولهم، بأنّهم باتوا يمتلكون الحقائق المطلقة. ففساد العقل هو مرادف لعقمه وتوقّفه عن التفكير وطرح الأسئلة.
غسان صليبي النهار