كتب حبيب معلوف في “الأخبار”:
شح المياه وتسعيرها لم يعودا تفصيلاً. وسلامة مياه الشرب وعدم معالجة مياه الصرف أصبحا مسألة وجودية لا تقلّ تبعاتها خطورة عن أي من الكوارث التي شهدها لبنان بعد الانهيار. وعلى أبواب الصيف، فصل الشحّ والتلوث، يستدعي موضوع المياه خطة طوارئ وطنية واجتماعاً استثنائياً لمجلس الوزراء واستنفار من بقي من مسؤولين يتحمّلون حدّاً أدنى من المسؤولية.
قبل الانهيار، أكثر من 80% من مياه الصرف المقدرة بنحو 350 مليون متر مكعب سنوياً لم تكن تخضع للمعالجة، تضاف إليها تلك الناجمة عن تدفق النازحين بما يتجاوز مليوناً ونصف مليون متر مكعب. اليوم، مع توقف كل محطات التكرير والمعالجة تقريباً عن العمل، بسبب عدم توافر الأموال لتغطية الكلفة التشغيلية والمحروقات والصيانة… فإن أكثر من 95% من مياه الصرف لم يعد يخضع للمعالجة، ما يتسبّب في تلويث خطير، لا علاج له، للمياه السطحية والجوفية، ما ينعكس تلوثاً في التربة، وبالتالي الغذاء.
تقدّر الكلفة الأولية لمعالجة مياه الصرف الصحي اليوم بأكثر من نصف مليار دولار سنوياً (دولار لكل متر مكعب)، كان يفترض أن تضاف إلى فاتورة تأمين المياه ليظهر حجم الأزمة المتستّر عليها. إذ لطالما غضّ من ادّعوا وضع استراتيجيات التنمية وإدارة المياه، النظر عن هذه القضية الخطيرة. ولم يربطوا، في هذه الاستراتيجيات والخطط، تسعير إدارة المياه العذبة بكلفة معالجة مياه الصرف، لسبب بسيط، هو عدم وجود استراتيجيات أساساً، ولخضوع مشاريع إدارة المياه العذبة ومياه الصرف لآراء ومقترحات المستثمرين في هذا القطاع وأصحاب المصالح والشركات المرتبطة بشبكات التمويل الدولية والشركات الكبرى ذات الصلة. إذ إن الشركات المستثمرة، وعملاءها داخل الإدارات الرسمية وخارجها، هي من كانت تضع الخطط والتشريعات، المسمّاة زوراً «استراتيجيات»، وتربطها بمشاريع استثمارية لإنشاء السدود السطحية، مع اقتراحات بزيادة فاتورة تأمين مياه الشرب وزيادة فاتورة معالجة مياه الصرف… من دون أن تأخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي والدخل الفردي والأنظمة الإيكولوجية وضرورة وجود استراتيجية تحدّد الحقوق وتحترم النظم البيئية وتضع الأولويات وخطط التوفير والإرشاد في القطاعات كافة… فكانت النتيجة كوارث متراكمة بات مستحيلاً معالجتها، بعدما هدّدت الأمن الغذائي والحياتي وضربت سلامة الأنظمة الإيكولوجية للأجيال المقبلة. وهذه جريمة كبرى متمادية تفوق بخطورتها ضياع ودائع الناس وجنى أعمارهم في المصارف، وينبغي أن يُحاسب عليها كل من تولى سلطة، مباشرة أو غير مباشرة، في إدارة هذا القطاع الحيوي والحياتي في لبنان.
مع تراجع معالجة مياه الصرف إلى حدود الصفر وانهيار أنظمة التنظيم المدني وترتيب الأراضي والعمران وسوء إدارة أزمة اللجوء، باتت مصادر المياه مهددة، وارتفعت فاتورة تأمين مياه الشرب لتشمل مياه المصالح (مئة دولار سنوياً) والمياه المعبّأة التي يلجأ إليها الناس لشكوكهم المحقة بعدم سلامة مصادر المياه، واعتقاداً منهم بأنها أكثر أمناً، فيما الواقع أن رقابة الدولة على هذه أيضاً تكاد تكون منعدمة. إذ ليس مستغرباً في بلد تحكمه المافيات استغلال الأزمة لرفع فاتورة المياه المعبأة بشكل كبير لا يحتمل (نحو ٢٥ سنتاً لليتر!). مع الإشارة إلى الفروقات الكبيرة بين المياه الصالحة للشرب، أي المعالجة، والمياه المعدنية الطبيعية الغذائية التي باتت نادرة وأسعارها في حالة ارتفاع مستمر من دون أية سقوف. وهذا سببه أيضاً سوء الإدارة أو تواطؤها، يوم تجنبت البحث في الوضع القانوني ومراجعة ما يسمى «الحقوق المكتسبة على المياه»، ودفعت التعويضات اللازمة لاسترداد هذه الحقوق على المياه كملكية عامة وحق من حقوق الإنسان… وانهمكت الإدارات المتعاقبة في البحث عن كيفية الاستثمار وتحقيق المنفعة الشخصية عبر إنشاء السدود السطحية المكلفة وغير الضرورية، والاستثمار في تعبئة المياه والاتجار بها.
فهل تسمح الأزمة الوجودية التي بدأت طلائعها مع بداية الصيف لناحية نقص المياه والتمويل لتوصيل المياه أو معالجة مياه الصرف، بإعادة فتح النقاش حول استعادة الملكية العامة للمياه وإعادة النظر في الأولويات، لناحية ضبط الهدر في الشبكات أولاً، ومعالجة مياه الصرف والتلوث ثانياً، والتأكيد على عدالة التوزيع وضبط وترشيد الاستهلاك في القطاعات كافة، لا سيما في القطاع السياحي المخالف أصلاً في معظمه، ومنح الأولوية للشرب على الترفيه في الاستخدامات؟ وبرفع دعاوى على المتسببين بسوء الإدارة والحماية والتوزيع، وسوء الائتمان على إدارة هذه الثروة التي تفوق بأهميتها الثروات التي سلبت من المصارف؟ مع العلم أن بعض الأرقام تشير إلى هدر المليارات من الدولارات على إنشاء السدود السطحية غير الضرورية وسمسراتها وتنفيعاتها… وإلى هدر ما لا يقل عن مليار ونصف مليار دولار بين عامي 2001 و2020 (بين قروض ومنح) على مشاريع الصرف الصحي المتوقفة بسبب سوء الإدارة والتخطيط أو ضعف التواصل مع الناس والإدارات المحلية، وضعف التمويل والتشغيل والصيانة.