كتبت راكيل عتيّق في “نداء الوطن”:
أثبت النظام الإداري المركزي المُعتمد في الدولة اللبنانية فشله، ولم ينجح في تحقيق الإنماء المتوازن ولا في بسط سلطة الدولة على كلّ المناطق. هذا النظام نُخرت مداميكه بالفساد والبيروقراطية في الإدارة والسرقة والهدر وغياب الشفافية والرقابة الجدية، وذلك بالتوازي مع حصر القرارات الإجرائية «الكبيرة» و»الصغيرة» بالسلطة التنفيذية، بحيث أدّت الاختلافات وعدم توافر التوافق السياسي في الحكومة، إلى تعطيل أي إجراء من التعيينات وصولاً إلى الملفات الحيوية مثل الكهرباء والنفايات، فضلاً عن المحاصصات والصفقات التي تحكُم إقرار أي مشروع وتنفيذه.
النظام الإداري المركزي في لبنان مُكبّل بالتوافق السياسي والتحاصص الطائفي، ما ساهم في فرملة تقدُّم الدولة، فغرقت في القرن الـ21 في العتمة والنفايات والطرقات «البدائية». وعلى رغم عمق الأزمة الراهنة، تُجمع جهاتٍ عدة، على أنّ مشكلات كثيرة، لما كانت موجودة، لو كانت اللامركزية الإدارية مُعتمدة، فالمجالس المحليّة المُنتخبة يُمكنها التوصل إلى معالجة جذرية لملفي الكهرباء والنفايات محلياً، فضلاً عن توفير الإنماء والأمن في نطاقها الجغرافي، إلى جانب الأجهزة الأمنية. لكن على رغم «الإجماع» السياسي المُفترض على اللامركزية الإدارية في «اتفاق الطائف» (وردت ضمن الإصلاحات في الاتفاق وليس ضمن التعديلات الدستورية)، إلّا أنّ إقرارها لا يزال متعذراَ، بعد أكثر من ثلاثة عقود، لأسبابٍ سياسية حزبية فئوية ولغياب «التوافق» الجدّي.
كذلك، تشكّل اللامركزية الإدارية الموسّعة حلاً لمعضلة خضوع مناطق للدولة وخروج مناطق أخرى عن سلطتها، على مستوى الجباية وتوزيع إيراداتها المالية وعلى الصعيد الأمني المحلّي. كذلك تساهم اللامركزية الإدارية المالية الموسّعة في لجم الأفكار التقسيمية وتعزيز انتماء المواطن للدولة الواحدة، انطلاقاً من نظام يوفّر العدالة والإنماء والحماية الاجتماعية والأمنية في المناطق كلّها. وعلى عكس تهويل البعض، فإنّ اللامركزية الإدارية الموسّعة ليست لا فدرالية ولا تقسيماً، بل إنّها بالتعريف القانوني، نوع من التنظيم الإداري للدولة الموحّدة يقوم على نقل صلاحيات إدارية من الدولة المركزية إلى وحدات محلية منتخبة مباشرةً من الشعب تتمتّع بالاستقلالين الإداري والمالي. ويُعتمد كلّ من النظام اللامركزي الإداري أو السياسي الموسّع، ضمن دولة موحّدة ولا يشكّل أيّ منهما تقسيماً. هذا علماً، أنّ النظام اللامركزي أثبت فعاليته في دول عدة فساهم في تقدّمها أو في تنظيم النزاعات والاختلافات القومية والطائفية والجغرافية فيها. وباتت غالبية الدول تعتمد نظاماً فدرالياً، من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى غالبية الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.
مسار اللامركزية
في لُبنان تُعتمد اللاحصرية التي تقضي بتسيير مختلف إدارات الدولة مباشرة بواسطة موظفين تابعين للسلطة المركزيّة ومعيّنين من قبلها في المحافظات والأقضية، بينما تقوم اللامركزيّة الإداريّة على انتخاب هيئات محلّية تتمتّع بالشخصيّة المعنويّة وبالتالي بالاستقلال المالي والإداري تدير شؤون الوحدة اللامركزية. وتُعتبر البلديات واتحادات البلديات الشكل الوحيد للامركزية في لبنان، لأنّها مجالس محلية منتخبة وليست معيّنة، وتتمتّع بإستقلالٍ مالي وإداري وصلاحياتٍ واسعة.
وشكّل «اتفاق الطائف» عام 1989 مع انتهاء الحرب الأهلية، محطةً مفصلية لطرح اللامركزية الإدارية. لكن على رغم الإجماع في الطائف، لم تقترن اللامركزية بأي تشريع، بسبب غياب القرار السياسي، وليس لصعوبة تحقُّقها تقنياً. وكانت قُدّمت مشاريع واقتراحات قوانين عدة حول اللامركزية، بعد العام 1990، إلّا أنّ أيّاً منها لم يصل إلى الهيئة العامة في مجلس النواب. إلى أن عاد هذا الطرح إلى دائرة البحث الجدّي في عهد الرئيس ميشال سليمان، بعد جلسات الحوار. ففي أواخر عام 2012، كلّفت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وزير الداخلية آنذاك زياد بارود مع مجموعة من الخبراء بإعداد مشروع قانون للامركزية الإدارية، فانكبت هذه اللجنة على إعداد المشروع وأنجزته بعد نحو سنة من العمل.
مشروع «لجنة بارود»، الذي أطلقه سليمان، مطلع نيسان 2014، قبل نحو شهرين من انتهاء ولايته، يُعتبر لامركزياً بامتياز، فالسلطات المحلية على مستوى القضاء مُنتخبة بالكامل وتتمتّع باستقلالٍ إداري ومالي كبير وصلاحياتٍ واسعة ووارداتٍ مالية كبيرة. لكن هذا المشروع بقي مجمداً بين عامي 2014 و2016 في ظلّ الشغور الرئاسي وحكومة تصريف الأعمال، إلى أن تبنّاه النائب سامي الجميل من دون أي تعديل، وحوّله إلى اقتراح قانون، فأُحيل إلى لجنة الإدارة والعدل برئاسة النائب روبير غانم آنذاك، وشُكّلت لجنة فرعية خاصة لدرسه، واستمرّت مناقشة اقتراح قانون اللامركزية الإدارية إلى حين انتهاء ولاية المجلس وانتخاب مجلس جديد، ثمّ انتخاب النائب جورج عدوان رئيساً للجنة الإدارة والعدل. عُقدت نحو 67 جلسة في اللجنة الفرعية لمناقشة هذا المشروع، إلى أن توقفت اللجنة عن الاجتماع خلال عام 2019، بسبب الخلاف السياسي على موضوع الجباية وتوزيع العائدات، وفق ما يشرح العضو في هذه اللجنة عضو تكتل «اللقاء الديموقراطي» النائب بلال عبدالله. ومع انتهاء ولاية مجلس 2018 وانتخاب مجلس جديد عام 2022 لم تُشكّل لجنة فرعية جديدة لدرس اقتراح قانون اللامركزية الإدارية، فبات «مُفرملاً» إلى حين «تحريره» بقرارٍ سياسي، إذ إنّ اللجنة الفرعية كانت تقدّمت في إقرار مواده وتبقّى القليل لإنجازه.
لا «لامركزية» بلا موارد مالية
هذا الإقتراح يقع في 147 مادة، وينص على اعتماد القضاء وحدة لامركزية، بحيث يُنتخب مجلس القضاء بالكامل، ويتألّف من هيئة عامة ومجلس إدارة. ويمنح المشروع صلاحيات واسعة جداً لمجالس الأقضية تأتي من صلاحيات القائمقام والمحافظ، فيما لا يلغي أياً من صلاحيات البلديات. كذلك يُعطي المشروع مجالس الأقضية واردات مالية كبيرة، لكن من دون المس بواردات البلديات أو استحداث ضرائب جديدة، بل تتأمّن واردات مجالس الأقضية من بعض الضرائب المركزية التي تصبح محلية، فبدلاً من أن تُدفع هذه الضرائب لخزينة الدولة ولا يُعرف كيف ولمن ستُوزّع، تُسدّد لمجلس القضاء. وتتأمّن واردات لهذه المجالس أيضاً من صندوق لامركزي يحلّ محلّ الصندوق البلدي المستقلّ، وهناك 4 مؤشرات لطريقة توزيعه على المناطق بطريقة عادلة، بحيث لا تُقاصص الأقضية الغنية نسبياً والتي تجبي، بل تعطى حوافز بالتوزيع.
اللامركزية الإدارية تحلّ معضلات كثيرة، تبدأ من تحقيق الإنماء المحلّي فعلياً وصولاً إلى المحاسبة الجدية للمسؤولين، حتى على «حفرة» في الطريق. وأبرز مثال على نجاح اللامركزية، عمل البلديات في هذه المرحلة، إن على مستوى اعتماد الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء أو على مستوى معالجة النفايات إنّما ليس بالفعالية المطلوبة نظراً إلى التقييدات القانونية. كذلك خلال أزمة «كورونا» لم تتمكّن وزارة الصحة من العمل لوحدها وطلبت المساعدة من البلديات. وانطلاقاً من ذلك، إنّ اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة عبر مجالس أقضية منتخبة محلياً مع صلاحيات واسعة وواردات مالية كافية، ستُحلّ هذه المعضلات كلّها، بحيث يُمكن لأي قضاء معالجة الطاقة والنفايات وبناء مستشفيات وملاعب رياضية وصيانة الطرقات على سبيل المثال لا الحصر.
اللامركزية المالية ليست «استقلالاً»
هذه الموارد المالية للمجالس المحلّية، هي موضع خلاف سياسي كبير خصوصاً بين «التيار الوطني الحر» ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي سبق أن عبّر في أكثر من مناسبة عن أنّه لا يوافق على أي استقلال مادي أو أمني للمجالس المحلية. هذا النقاش احتدم مع مطالبة رئيس «التيار» النائب جبران باسيل تكراراً، باللامركزية الإدارية المالية الموسّعة. ولا يزال طرح اللامركزية يشهد انقساماً طائفياً، إلّا أنّ عبد الله يعتبر أنّ «الموضوع ليس طائفياً، لكنّنا مع تطبيق «اتفاق الطائف» الذي لم يتحدث عن لامركزية مالية أو موسّعة». ويعتبر أنّ «هذه الطروحات لا تُبحث على وقع الانهيار الكبير بل تتطلّب توافر استقرارٍ سياسي بالحد الأدنى وبداية تعافٍ اقتصادي، إذ خارج هذا الإطار نذهب إلى مكانٍ آخر».
كلّ النقاش السياسي عن اللامركزية المالية عقيم وليس في مكانه، بحسب بارود رئيس اللجنة التي أعدّت هذا المشروع، فأي لامركزية من دون واردات مالية لا جدوى منها، ولا فائدة من صلاحيات لا يمكن ممارستها. ويشير بارود إلى أنّ الاعتراض على اللامركزية المالية خاطئ ويأتي من منطلقات سياسية، إذ هناك لامركزية مالية في البلديات. كذلك يوضح أنّ الانطباع الذي يحاول البعض تسويقه لجهة أنّ اللامركزية المالية تعني استقلالاً، غير صحيح. ويقول: «إذا كان المطلوب لامركزية مع صلاحيات محدودة ومن دون إمكانات مالية فلنبقَ على ما نحن عليه. وإذا استمرّ البعض في هذه المعارضة، فيُعطي حجة للذين يطالبون بالفدرالية، علماً أنّ الفدرالية ليست «شتيمة» ولا تقسيماً». ويرى بارود أنّ هذا الرفض الكامل للامركزية سيؤدّي إلى مطالبة الناس بما هو على يمين اللامركزية وأبعد منها. فهذه المسؤولية تقع على الطبقة السياسية، التي لا يمكنها التوجه للناس بأي حجة لعدم إجراء هذا الإصلاح البسيط، بعد ثلاثة عقود، والذي يغيّر كثيراً في حياتهم وفي دينامية الإنماء المحلّي ويجعل المواطنين يشعرون أنّهم جزء من المعادلة.
من جهته، يأسف النائب الياس حنكش عضو كتلة «الكتائب» التي تبنّت مشروع لجنة بارود، لتوقف درس اقتراح اللامركزية الإدارية، على رغم أنّه بداية لحلّ كلّ مشكلات البلد، من خلال مجالس محلية منتخبة، وإنماء متوازن، بدلاً من انتظار وزير الأشغال لـ»تسكير جورة» في الطريق أو وزير الصحة للحصول على سلفة مالية لمستشفى. ويوضح أنّ اللامركزية تخلق دينامية تنافسية بين المناطق ومنطق محاسبة. كذلك، يرى مقرّر لجنة الإدارة والعدل عضو تكتل «لبنان القوي» النائب جورج عطالله أنّ هناك جهات لا مصلحة لها بأن يكون هناك نوع من الاستقلالية في الإدارات المحلية، إذ هناك مواطنون يعملون ويدفعون للدولة ويموّلون آخرين. وإذ يشير إلى أنّ كلّ دول العالم الناجحة تعتمد نظاماً لامركزياً مالياً موسّعاً، يلفت إلى أنّ اللامركزية حلّ لكثير من المشكلات في لبنان، لكن هناك أطرافاً مستفيدة وتلقي بثقلها على الدولة وعلى مناطق أخرى تلتزم الدولة، لذلك تعارض إقرار قانون اللامركزية.