كتبت فاتن الحاج في “الأخبار”:
قرار التعليم الحضوري في الجامعة اللبنانية أتى مباغتاً لكثير من الأساتذة الذين اختاروا السفر بحثاً عن الاستقرار الاجتماعي. هل حظي هؤلاء بالاستقرار فعلاً، أم أنهم يعيشون صراعاً اضطرهم إلى قبول عروض في الخارج لم يكونوا ليقبلوها في بلدهم؟
في الغالب، يرتبط أساتذة الجامعة اللبنانية، عاطفياً، بجامعتهم. قرار «الهجرة» لم يكن طوعياً بالنسبة إلى البعض، ومع ذلك ليس كل من غادر الجامعة إلى الخارج نال «فرصته» بالضرورة. لم تكن الخيارات المتاحة على قدر التطلعات والتمنيات دائماً. مِن الأساتذة مَن قدّم استقالته واستثمر خبرته وارتبط بعقد دائم وثابت، معتمداً على علاقاته المتينة مع جامعات ومراكز بحثية فرنسية بصورة خاصة، ومنهم من حظي بعقد محدود لسنة أو سنتين، وبعضهم تمسّك بالـpost doc، وهي فرصة يمكن أن يحصل عليها الأستاذ عند التخرّج وبعد نيل الدكتوراه مباشرة، وثمة من ذهب ليدرّس في جامعات خاصة غير معروفة ومدارس خاصة، وآخرون فازوا بـ«دروس خصوصية» فحسب. وقد يصادف أن يكون الزوجان أستاذين في الجامعة، ويعثر أحدهما على عمل ويغادران معاً. البعد المهني ليس الدافع الوحيد للاستقرار في الخارج وخصوصاً لمن يحمل الجنسية الأجنبية، بل كان البحث عن تعليم الأولاد وطبابتهم عاملاً غالباً في أحيان كثيرة لقبول أي عمل، أو حتى مجرد الاكتفاء بـ«راتب البطالة».
تجميد التفرّغ
يروي أساتذة مسافرون أنهم يعيشون صراعاً حقيقياً بين أن يكونوا سعيدين بفرصة عمل قد تسهم في تطوير أدائهم، وأن يعيشوا تشتتاً لكونهم خسروا مكانهم في جامعتهم. وهم لا يعرفون ما إذا كان «تجميد التفرّغ» لسنة واحدة، وهو تدبير اتخذته رئاسة الجامعة لحفظ حق الأستاذ بالعودة، خطوة قانونية فعلاً، «إذ لا أحد يضمن لنا ذلك، ولا سيما أننا تعبنا لنتفرّغ في الجامعة ويصعب التخلي عنها بهذه السهولة، وإن كانت الجامعة لم تحافظ على أصحاب الخبرة والكفاءات». هذا القلق قاد البعض إلى تقديم طلبات استيداع أو إجازات بلا راتب لمدة 3 أشهر أو 6 أشهر، على أن يخاطر بتجميد التفرغ.
وفي حين تتحدث مصادر الإدارة المركزية عن أن بعض الأساتذة المسافرين يتريّثون في إبلاغ المديرين بخياراتهم، أو يعمدون إلى تقديم إجازات بلا راتب لمدة ثلاثة أشهر فقط، لكونهم لا يزالون يراهنون على فشل التعليم الحضوري، يشير أساتذة مسافرون إلى أن التخلي عن الجامعة والسفر لم يكن خياراً سهلاً، والحاجة الاجتماعية دفعتهم إلى ذلك، وإن على مضض، ولو أنهم كانوا يعلمون أن رئاسة الجامعة ستتخذ قراراً بالتعليم الحضوري حصراً لما سافروا. يعتقد هؤلاء أنه مع بداية العام الجامعي سوف تظهر العديد من المخالفات والتسويات، نظراً إلى الاستنسابية التي يتم التعاطي بها مع ملفات الأساتذة المسافرين، «وهذا ليس بجديد حيث إن الأستاذ المدعوم لا يحتاج إلى تقديم إجازة من دون راتب أو تجميد تفرّغ، فهناك من يدرّس عنه موادّه ويستر عليه».
نزوح بين الفروع
«لا شك أن الجامعة خسرت الكثير من الأساتذة الأكفاء، وخصوصاً من كلية العلوم»، يقولون، إذ «أرغمنا على الهجرة بسبب الظروف المعيشية من جهة، والتضييق علينا بتعاميم لن تُطبق على الجميع من جهة أخرى».
على خط مواز، اضطر العديد من الأساتذة الموجودين في البلد لطلب نقلهم إلى الفروع الأقرب إلى سكنهم الذي بات بحكم الظروف بعيداً عن العاصمة، ما أدى إلى موجة نزوح بين الفروع. هذه الموجة سوف تصبغ، بحسب مصادر الأساتذة هنا، الفروع بصبغة طائفية وحزبية أكثر مما كانت عليه سابقاً. «الخطورة لا تكمن فقط في خسارة هؤلاء الأساتذة، إنما أيضاً في فتح الباب على مصراعيه لزبائنية جديدة وبالتحديد في كلية العلوم، ولتطويب أقسام بأكملها للحزب السياسي الفلاني أو العلاني عبر الاستعانة بأساتذة متعاقدين، منهم من هو تابع للعمادة، ومنهم من هو جديد، وذلك من دون إعلان شواغر ولا المرور بلجان علمية فاحصة باعتبار أن الوقت داهم ولا يسمح في ذلك، حيث إنه تم إبلاغ الأساتذة في وقت متأخر جداً بأن العام الحالي سوف يكون فيه التدريس حضورياً».
فراغ الكليات العلمية
الفراغ الذي أحدثه الأساتذة «المهاجرون» لم يكن في الكليات الإنسانية والاجتماعية، إنما في الكليات العلمية والتطبيقية التي نسج أساتذتها على مرّ السنوات السابقة علاقات مع جامعات في دول أجنبية. في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، لا يتجاوز العدد أصابع اليد الواحدة، ويمكن ملء الفراغ داخلياً بسهولة، عبر اعتماد «الترشيق» في عدد الساعات وإسنادها إلى متعاقدين، وتقليل تشعيب الصفوف.
لم يكن هذا هو الحال في كلية العلوم أو كلية الهندسة مثلاً اللتين خسرتا أساتذة راكموا خبرات واسعة، ولديهم اختصاصات دقيقة.
وضع الأساتذة الصامدين في لبنان، والذين لم تفتح أمامهم أبواب الهجرة ليس مختلفاً. بعضهم ترك جامعات خاصة للتفرّغ في الجامعة اللبنانية، ولم يعد قادراً على استعادة عمله في الجامعة الخاصة بعد وضع فيتو على اسمه. ومن الأساتذة من اختار مغادرة الجامعة، هذا العام، بحثاً عن استقرار خارجها، كما فعل أحد الأساتذة في العلوم الاجتماعية الذي تعاقد مع المعهد منذ العام الدراسي 2011 ـ 2012، وكان يعمل لمصلحة منظمات دولية في الوقت نفسه، إلا أنه لم يكن من أصحاب الحظوة السياسية للتفرّغ في عام 2014، ومع ذلك لم يفقد الأمل بالتفرغ إلا في العام الأخير حيث أُجبر على الاختيار، كما قال، مشيراً إلى أنه سيستمرّ في إعطاء مادة واحدة، للحفاظ على العلاقة العاطفية مع الجامعة.
هذا لا يحجب أن هناك أساتذة اختاروا التفرّغ للجامعة اللبنانية ويعتقدون أن وجودهم فيها اليوم، أكثر من أي وقت آخر، مسؤولية ومهمة نضالية لمنعها من الانهيار.
الإدارة المركزية: لا تراجع عن التعليم الحضوري
تبدو الإدارة المركزية في الجامعة اللبنانية مطمئنة إلى أن التحضيرات تجري على قدم وساق لانطلاقة العام الدراسي الحضوري. تقول مصادرها إنه جرى تأمين المازوت لمعظم الكليات والمجمعات، وكذلك بالنسبة إلى القرطاسية وأوراق الامتحانات، فيما يُعلن، على خط مواز، عن الشواغر لتأمين أساتذة بديلين عن الأساتذة المهاجرين وسدّ النواقص في بعض المواد مثل علم البيانات في كلية الإعلام وبعض المواد في كلية التكنولوجيا.
وتشير المصادر إلى أن العام الجامعي انطلق حضورياً في كلية الزراعة بنسبة 100%، لافتة إلى أن الأساتذة المسافرين من كلية الهندسة تركوا فراغاً واضحاً، ولكن يمكن ملؤه بسهولة، إذ جرت الاستعانة بـ11 أستاذاً جديداً فقط ولن نتراجع عن تطبيق التعليم الحضوري الكامل في الكلية، مع السماح للأساتذة الذين قدّموا طلبات استيداع، ولديهم رغبة في التعاون مع الجامعة، بإعطاء محاضراتهم أونلاين. وتتحدث المصادر عن أن الحلول المقدّمة كانت مدروسة، وتراعي حقوق الأساتذة والطلاب.
لكن ما هي الإجراءات التي اتخذتها إدارة الجامعة حتى الآن لتأمين وصول الطلاب إلى الكليات؟ تنفي المصادر أن تكون أيّ من الجهات الدولية المانحة أو قطر قد أعطت جواباً نهائياً، بما يخصّ دعم انتقال الطلاب، وكلّ ما تستطيع أن تفعله الإدارة هو التصويب باتجاه صيانة السكن الطالبي، إذ ستقفله لمدة شهر لتأهيله، ومن ثم ستعيد افتتاحه وتستقبل الطلاب، علماً أن السكن لا يتسع لأكثر من 2000 طالب.