كتب فؤاد بزي في “الأخبار”:
منذ بدء انتشار مرض الكوليرا مطلع الشهر الفائت، أثيرت المقارنات بينه وبين كورونا، بدءاً من طريقة انتقاله، مروراً بطرق الوقاية منه، وصولاً إلى مرحلتَي العلاج والتلقيح. إلا أن الأمر الأساسي الذي ينبغي معرفته أنهما يختلفان من حيث التكوين، فالكوليرا بكتيريا، والكورونا فيروس.
تشكّل البكتيريا مملكة بحد ذاتها بين الكائنات الحيّة، وهي أصغرها وأبسطها، وأقدمها على الكرة الأرضية. يسبق وجودها الإنسان بمليارات السّنين، ومن يدري قد تبقى بعده. يتكوّن جسم الإنسان من مليارات الخلايا التي يعمل بعضُها مع بعض، بينما البكتيريا هي أحادية الخلية، كلّ خلية تعيش وحدها. غير مرئية للعين المجردة، ولم يعرفها البشر قبل عام 1676، عندما كان أنطوان فان لوانهوك يلهو بعدسته المكبرة، عاين نقطة مياه، فرأى أجساماً صغيرة تتحرّك سمّاها “الحيوانات الصغيرة”.
تتصرّف البكتيريا كأيّ كائن حيّ. تتكاثر، تأكل، وترمي فضلاتها، وتقوم بالعمليات الكيميائية الأساسية لتبقى على قيد الحياة، تستخدم الأوكسيجين للأكسدة والحصول على الطاقة. وهي أساسية لبقائنا على قيد الحياة، على عكس ما يعتقد الكثيرون بأنّها ضارة دائماً، ذلك أنّ أقل من 1% منها يشكل ضرراً لنا. البكتيريا الموجودة في جهازنا الهضمي، من فمنا وصولاً إلى آخر المصران الغليظ، أساسية في عملية الهضم، وحتى لحمايتنا من شقيقاتها الضارّة مثل الكوليرا، وهي تستفيد من الطعام الذي نأكله لتبقى على قيد الحياة، فنعيش معاً في توازن وتناغم دقيقين.
الكائن غير الحي
أما الفيروسات، فقد أعطاها العلم توصيفاً فلسفياً، “كائنات على حافة الحياة”. الفيروس وحده، لا يستطيع أن يقوم بأيّ عملية، من تكاثر، وتنفّس، وأكل، ولا يمكنه التحرّك من تلقاء نفسه، وهو أصغر بكثير من البكتيريا أقلّه بـ20 مرة. يبقى الفيروس ساكناً إلى حين دخوله خلية حيّة، حينها تصبح لديه مهمة واحدة: التكاثر، فيقوم بالسيطرة على هذه الخلية “المسكينة” بواسطة المادة الوراثية التي يحملها، ويجبرها على القيام بأمر واحد: استنساخ الفيروس. والفيروسات أكثر تخصّصاً من البكتيريا، إذ لا يمكنها أن تدخل خلايا لا تمتلك مفاتيحها التي تكون موجودة على غلافها الخارجي، وتُعرف باسم “البروتينات الشوكية”. على سبيل المثال فيروس “تبرقش التبغ”، يصيب نبتة التبغ حصراً، من دون أن يتسبب بأيّ خطر على الإنسان. وهناك أمراض فيروسية تصيب الحيوانات ولا تنتقل إلى البشر، كما هناك الفيروسات المشتركة التي تسبّب أمراضاً للبشر والحيوانات مثل فيروس كورونا المسبّب للجائحة الأخيرة.
إذاً تختلف البكتيريا عن الفيروسات بشكل جذري، وتدور بينهما حرب عنيفة بشكل يومي لا ندري بها، على سبيل المثال، تقتل المعارك في المحيطات أكثر من ثلث عدد البكتيريا يومياً، ولكن تتكاثر هذه الأخيرة بسرعة وتعوّض هذا النقص، لتعود الحرب وتتكرّر يومياً.
الأدوية للبكتيريا
تعرّف البشر أخيراً إلى هذه الأجسام المجهرية، ولم تُعرف العلوم الخاصة بها قبل روبرت كوخ (1843-1910)، أبي العلوم الجرثومية، وأوّل من تمكن من زراعة البكتيريا مخبرياً، كما تمكن من عزل بكتيريا الكوليرا ووصف شكلها كـ”الفاصلة”، ولم يستكمل الدراسات عليها.
ظلّت محاولات التغلّب على البكتيريا والفيروسات همّاً لا يفارق البشرية، إلى أن أتى الخرق الكبير على يد ألكسندر فليمينغ (1881-1955)، الطبيب الأسكتلندي، الذي يصف اكتشافه لـ”البنسيلين” (أول مضاد حيوي) بـ”الصدفة، لأنّ الطبيعة هي من قامت بتصنيعه”. ولا نبالغ لو قلنا إنّ معدّل أعمار الناس ارتفع بعد هذا الاكتشاف. قبله، كانت الالتهابات الناتجة عن أي جرح يمكن أن تسبّب الوفاة.
مخاطر استخدامها
أتت بعد “البنسيلين” اختراقات عديدة على مستوى إنتاج مضادات حيوية جديدة قادرة على التصدّي لأغلب أنواع البكتيريا، إلا أنّ هذه الاكتشافات لم تكن دون ثمن، فالبكتيريا لن تستكين وتتراجع، وهي تحمل في جيناتها أحد أسباب بقائها لمليارات السنين، ألا وهو التكيّف مع التهديدات. من اللحظة الأولى لإنتاج “البنسيلين” لاحظ فليمينغ أنّ أجيال البكتيريا اللاحقة تنتج مضادات لهذا الدواء، وقام بالتحذير من الأمر خلال تسلّمه لجائزة نوبل عن اكتشافه عام 1945، قائلاً: “تقاوم البكتيريا البنسيلين في المختبر عند وضعها مع كميّة غير قاتلة منه”. من هنا تأتي التحذيرات من “سوء استخدام” المضادات الحيوية، واستعمال هذه الأدوية بإفراط، أو عدم احترام الوصفة الطبية، فكلّ بكتيريا قادرة على التكيّف مع المضادات الحيوية، ما أدّى إلى ظهور “السوبر بكتيريا” في المستشفيات وغرف العمليات تحديداً، حيث تلتقي بجميع أنواع الأدوية على أدوات الأطباء، والأرضيات، وأماكن العمل. هذا النوع من البكتيريا يسميه العلماء “قنبلة يوم القيامة”، ويخشون كثيراً من انفلاتها بسبب مقاومتها لأشدّ المضادات الحيوية الموجودة في ترسانتنا كبشرية.
علاج الفيروسات
نصل إلى الفيروسات التي يحذّر العاملون في الحقل الصحي من استخدام المضادات الحيوية لقتلها، لأنّها أولاً غير فعاّلة أبداً، وثانياً، يُعدّ هذا استخداماً خاطئاً يمكن أن يؤدي إلى مقاومة بكتيرية لاحقاً في أجسامنا. للفيروسات أدويتها الخاصة المعروفة بـ”المضادات الفيروسية”، وفي أغلب لقاءاتنا معها، يُترك أمر مواجهتها لنظامنا المناعي الفعّال والقوي تجاهها، إلا ما ندر منها. أما الوسيلة الدفاعية الثانية ضد الفيروسات الآتية تحت خانة “ما ندر” فهي اللقاحات، التي استطاعت إنقاذنا من عدد كبير من الأمراض كانت الإصابة بها سابقاً تُعتبر قدراً مميتاً، فيروس شلل الأطفال أحدها، وكذلك الجدري.