كتبت ندى ايوب في جريدة الاخبار
تزامناً مع انعقاد الجلسة النيابية المخصّصة لاستكمال مناقشة مشروع موازنة 2022، شهد محيط مجلس النواب تحركات احتجاجية للعسكريين المتقاعدين رافضة لإقرارها. يطالب هؤلاء بتصحيح رواتبهم التقاعدية بما يتماشى ومعدلات التضخّم الحاصلة، وانعكاسها على غلاء الأسعار والمعيشة عامة. وهم لا يرون أن مضاعفتها 3 مرات كما تقترح قوى السلطة في مشروع موازنتها يفي بالغرض، بما أن التضخم تراكم أكثر من 800%. وازداد الغضب عندما وردت إليهم معلومات بأن الأضعاف الثلاثة سيتم تقليصها إلى ضعفٍ ونصف فقط، وأن يحتسب على أساس الراتب بلا المتممات. لذا، قرّر متقاعدو العسكر التصعيد. ومن المدخل المواجه لبلدية بيروت اقتحموا ساحة النجمة للمرة الأولى منذ اندلاع انتفاضة «17 تشرين» وما سبقها من حراكات مطلبية في السنوات الماضية. في تلك الفترة لم ينجح المحتجون في اقتحام الساحة بسبب القوّة المفرطة. لكن اليوم، حاولت السلطة، وبواسطة قنابل الغاز المسيّلة للدموع إبعاد العسكرين المتقاعدين عن مبنى مجلس النواب فأصابت عسكريين متقاعدين وآخرين في الخدمة وضعتهم السلطة من أجل قمع زملائهم. على أحد أرصفة الساحة يتحدث بمرارة رجل متقدّم في السن عن ابنه العسكري المجبر على الوقوف بوجه والده المتقاعد. البعض افترش الأرض. آخرون عبّروا عن الخذلان كوالدة شهيد في الجيش جاءت لتذكّر أهل السلطة أن دم ابنها حمى البلد. إلى جانبها عسكري متقاعد يعرف تماماً أن ما تنعم به قوى السلطة من أمان يعود الفضل فيه إلى جهوده ورفاقه في السلك وكافة القوى المسلحة بعديدها الحالي وعسكرييها المتقاعدين وشهدائها. لم تكن ساحة النجمة بعيونهم سوى «قلعة أمنية»، سائلين قائد الجيش العماد جوزيف عون «ألا ترى أي جريمة ترتكب هنا بحقنا وعائلاتنا؟». فكل نائب سيصوت على مشروع الموازنة «خائن».
وسط هذا كله شكّل الجيش الذي استُدعي لمساندة شرطة المجلس، سلسلة بشرية كخط دفاع عن المجلس. فطال التدافش بين العسكر وتخلّله كرّ وفرّ قبل أن يخرج النائب جميل السيد من القاعة العامة للمجلس متوجهاً نحو العسكريين المتقاعدين لثنيهم عن التصعيد أكثر. «ما بدي عسكر بوج بعض» قالها السيد كمن رسم حدود المواجهة. وتكفّل بأن يكون صوت المتقاعدين داخل المجلس الذي عاد إليه، متحصناً بثقة العميد جورج نادر ورفاقه ممن وافقوه الرأي والتوجه. ثم عاد السيد حاملاً مبادرة منسّقة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري فحواها: تعهّد الحكومة بإيجاد إيرادات خلال الأشهر الثلاثة المتبقية من العام لزوم تلبية مطالب المتقاعدين، التي ستدرج في موازنة عام 2023، وتشكيل وفد من ثلاثة عسكريين يرافقه إلى داخل المجلس ليعدّل أرقام بنود مشروع الموازنة المتعلّقة برواتبهم التقاعدية. الخلاف كان يدور حول احتساب الزيادة على أساس الراتب أم على الراتب الكامل ومن ضمنه المتممات، وقد نجح السيد والوفد المرافق بدعم من جميع الكتل في الداخل بتثبيت الزودة على أساس الراتب ومتمماته. لكن نادر لم تقنعه خلاصة ما تقدم اليوم «الأضعاف الثلاثة لا تسدّ غلاء المعيشة»، واعداً بأن الاقتحامات قد تتكرّر في أي لحظة يقرّرها العسكريون الذين سيناقشون مجريات هذا النهار ويحددون الخطة اللاحقة.
مجلس النواب يضاعف رواتب المتقاعدين ويعفيها من الضريبة على الدخل
عملياً، تعاطى العسكر مع مبادرة السيد على قاعدة افعل ما شئت ونحن نفعل ما نشاء، غير ملزمين بالتراجع. ويؤكد نادر أن خروج السيد من عدمه لم يغير في مشهد تطور الأمور «لم نكن في الأصل نريد نقل معركتنا مع السلطة لجعلها مع رفاقنا في السلك». وسلّط الضوء في كلامه لـ«الأخبار» على التمييز الحاصل بين موظفي القطاع العام والعسكر عامة الذي باتت رواتبهم أدنى من جميع موظفي الدولة.
وسط هذه المشهدية الجذابة للاستغلال، خرجت النائبة بولا يعقوبيان لتقنع العسكريين بعدم المطالبة بزيادة رواتبهم بهذا الشكل خوفاً من التضخّم الذي سيقضي على أي زيادة ما لم تدرس وفق خطة تصحح مسار الأزمة. وعندما وجّه لها أحدهم سؤالاً عما إذا كان الطوق في عنقها من الذهب، في إشارة إلى أنها ليست بموقع «التفلسف» على من يعجز عن إطعام أسرته. فقامت، بنزع الطوق ورمته بيده، مؤكدة أن سعره بضعة دولارات و«صحتين على قلبك». يخيّل لبولا أنها تستطيع معاملة العسكر الواقف على الجهة الأخرى من السياج الفاصل بينهما في ساحة النجمة كمتسوّلين أغبياء لا يدركون أنها لو أرادت سترتدي عقداً بمئات آلاف الدولارات. انزلقت يعقوبيان حتى أسفل دركٍ يمكن أن تبلغه، باستعراضٍ سخيف توّجت به حفلة التكاذب التي بدأتها منذ أن ادعت خروجها من صف السلطة.