كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
تأخير في تسديد الرواتب والمستحقات؛ همس حول مزاريب هدر وأكثر؛ تململ من ممارسات إدارية قسمت الموظّفين بين من هم «بسمنة» ومن هم «بزيت». هي ليست الصرخة الأولى التي أطلقها موظّفو مستشفى بعبدا الحكومي الجامعي الأسبوع الماضي. «نداء الوطن» تحرّكت على أثرها. ويبدو بعد التواصل مع موظّفين معترضين، وبعد لقاء مدير المستشفى، والمتابعة مع كلّ من التفتيش المالي ووزارتي المالية والصحة، أن ثمة حلحلة حصلت لناحية صرف الرواتب. لكن ماذا في التفاصيل؟
“في العام 2000، كنّا نتقاضى الرواتب حتى قبل نهاية الشهر إضافة إلى بدلات النقل. ومع استلام الإدارة الجديدة مهامها في العام 2004، أوقفت تسديد بدلات النقل بحجة أننا لسنا مثبّتين في الملاك، وحسمت مبلغ 100 ألف ليرة من راتبنا بسبب أعمال ترميم المستشفى، ما اضطرّنا للقيام بإضراب كبير آنذاك»، يقول أحد الموظّفين. مذّاك ومشهد الإضرابات يتكرر ولم يكن آخرها في العام 2017 تزامناً مع إقرار سلسلة الرتب والرواتب.
ويخبرنا موظّف آخر: «لا ندري أين تذهب الأموال وكيف تتبخّر. كل ما نعرفه أنه، مع نهاية كل شهر، نُبلَّغ بأن رواتبنا ليست متوفّرة. هل لأن مؤسسات الدولة التي تعاني من خسائر ينخرها الفساد؟ ربما. يأتون إلى المؤسسة فيعتبرونها ملكاً لهم وتبدأ الصفقات. هناك حوالى 150 موظفاً، المميّزون بينهم أربعة والآخرون يعانون. حتى الأطباء، ثلاثة منهم يتولّون شؤون المستشفى ويتقاضون حصة الأسد، والباقون حالهم كحال الموظّفين”.
موظّف ثالث أشار إلى أن «هناك بين الموظّفين في بعض الأقسام من بلغوا درجة من الرفاهية كونهم مقرّبين من المدير، ومنهم من يتقاضى أكثر من راتب حيث جرى تعيينهم في أكثر من قسم. فكيف لشخص تعيّن فئة رابعة أن يكون مديراً للموارد البشرية مثلاً؟”.
وثمة المزيد: «بدأت المشكلة مع الإدارة الجديدة في العام 2004. مع العلم أن مستشفى بعبدا هو من أكثر المستشفيات التي تحصل على هبات خارجية نتيجة الخصوصية التي تتمتع بها. نريد رواتبنا التي لم نتقاضاها منذ شهرين، إضافة إلى بدل غلاء المعيشة بقيمة 1,325,000 ليرة كما نطالب بالمفعول الرجعي لسلسلة الرتب والرواتب رغم أنه فقد قيمته هو الآخر مع انهيار الليرة»، كما يحدّثنا رابع.
ماذا بعد؟ «حين نطالب بالرواتب يأتي الجواب «ما في مصاري». وحين نتّجه إلى التصعيد «بتخلق المصاري». وإذا تجرّأ أحدنا وتمرّد في مطالبه، تُنزع منه صلاحياته شيئاً فشيئاً. حتى أنه تمّ تهديد أحد الموظّفين في إحدى المرات بإحالته إلى التفتيش المركزي في حال استمرّ بمطالبته وتلكأ عن القيام بمهامه». نوسّع الدائرة أكثر فنسمع من موظّف سابق أن «الفواتير المتعلّقة بتجهيز المواد مضخّمة بغالبيتها، مع ما يعنيه ذلك”.
العجز وأسبابه
ما سمعناه ليس بالقليل. في المقام الأول، لِمَ التأخّر في منح الموظّفين أدنى حقوقهم؟ التفتيش المالي كان أول من قصدنا لنعلم من المفتش العام المالي، وائل خداج، أن هناك جهوداً تُبذل مع فريق العمل لتبيان ما يجري داخل المستشفى رغم الصعوبات التي تواجه المفتشين في تنقّلاتهم. ندع التفتيش يقوم بمهامه، ونتوجّه إلى مدير عام المستشفى، الدكتور فريد صباغ، الذي التقته «نداء الوطن» في مكتبه، لنسمع ما لديه عملاً بمبدأ حق الردّ.
بحسب صباغ، العجز الذي أصاب المستشفى هو نتيجة تأخّر تسديد الفئات الضامنة مستحقاتها، من جهة، وإعفاء المرضى المحتاجين من تسديد فروقات طبابتهم، من جهة أخرى. ويضيف: «الرواتب ومصاريف المستشفى التشغيلية تُسدَّد من فواتير الاستشفاء. وبحسب العقود، على المؤسسات الضامنة تسوية حساباتها خلال شهر إلى ثلاثة أشهر، لكن التأخّر الكبير في الدفع أدّى إلى تراجع ملموس في إيرادات المستشفى. الموظّفون لا يعرفون مأساتنا، فقد بلغت ديون الجهات الضامنة حوالى 9 مليارات ليرة». ثم أن المستحقات التي تسدّدها الجهات الضامنة ما زالت تُحتسب على سعر صرف 1500 ليرة للدولار الواحد، في حين أن المستشفى يقوم بإيفاء أسعار البضاعة نقداً وعلى سعر صرف السوق السوداء، كما يقول.
صباغ يكمل مشدّداً على مسؤولية المستشفى تجاه أي مريض عاجز عن تسديد فروقات فاتورة الاستشفاء: «عام 2014 أَصْدَرْت مذكّرة تمنع عدم استقبال المرضى غير القادرين على تسديد فاتورتهم. وهذا أقل ما يمكن فعله إنسانياً تجاه مرضانا. لكن 90% من هؤلاء أصبحوا عاجزين عن الدفع. وبالتالي لا فروقات مرضى ولا فروقات جهات ضامنة. فمن أين أدفع الرواتب؟”.
الحق على الدولة؟
ماذا عن تأخير تسديد المفعول الرجعي لسلسلة الرتب والرواتب للموظّفين لعام 2018؟ يجيب صباغ أن المبالغ التي لم تُسدَّد هي تلك التي تعود للفترة الممتدّة ما بين المرسومين الأول والثاني. نسأل عن الأسباب فيقول: «نحن بحاجة إلى مبلغ كبير وقرار تسديد هذه المبالغ سينتج عنه تخفيض للرواتب آخر الشهر». وعن المساعدة الاجتماعية المتمثلة بصرف نصف راتب والتي أُقرّت براتب كامل ابتداء من الشهر الماضي، يوضح صباغ أن وزارة المالية تمنّعت عن صرف هذه المساعدة للمستشفيات الحكومية كون الأخيرة تحصّل إيراداتها بنفسها. «فلو سدّدت الوزارة هذه المبالغ، لتمكّنا من إعطاء الموظّفين حقوقهم التي لم يتقاضوها بعد وتمويل مستحقاتهم للأشهر المقبلة”.
أما في ما خص مساعدة غلاء المعيشة – وهي عبارة عن مبلغ 1,325,000 ليرة شهرياً – فقد أوعزت هيئة التشريع والاستشارات لإدارات المستشفيات بتسديدها للموظّفين، كل منها بحسب قدرتها، على قاعدة أن ما يُطبَّق على القطاع الخاص يُطبَّق على القطاع العام أيضاً، ما زاد من الأعباء على مالية المستشفى. هذا عدا عن مصاريف المحروقات رغم تبرّع الدولة اليابانية بتركيب نظام طاقة شمسية. «مصاريف المازوت بلغت 15 ألف دولار الشهر الماضي، لأننا مجبرون على تشغيل مولّد المستشفى بنسبة 20% من قدرته الإنتاجية لتغطية أي هبوط قد يحصل في إنتاج الطاقة الشمسية. فاستهلاكنا لمادة المازوت يتراوح بين 800 إلى 900 ليتر يومياً»، من وجهة نظر صباغ.
المعوّقات كثيرة كما نفهم، لكن أين الخطط الإنقاذية؟ «يسعى وزير الصحة العامة جاهداً لطرح الحلول وانتشال المستشفيات الحكومية من أزمتها، ومنها تعديل تسعيرة الوزارة وطلب مساعدات من البنك الدولي التي قد تصل تحويلاتها الأسبوع المقبل. لو كانت الأموال موجودة لكنت أول من تقاضى راتبه. لا دافع لديّ لتأخير راتبي ورواتب الموظّفين… التأخير سببه عدم تسديد الدولة لالتزاماتها”.
من يعلم؟
ننقل ما يدور على لسان الموظّفين إلى صباغ، ما يثير استغرابه لاعتباره أن ما يجمعهم بالإدارة جوّ عائلي بامتياز. لكن هل صحيح أن لبعض الموظّفين حظوة وصلاحيات مميّزة دون سواهم جعلتهم يتملّكون أسهماً في نوادٍ فخمة وسيارات حديثة في ظل «عجز» يصيب المستشفى؟ «لا أعرف عما تتكلّمون، فهذا موضوع يتعلّق بوضع كل شخص على حدة ولا علاقة لي بذلك. لكن ما أستطيع تأكيده هو خضوعنا لجميع أنواع الرقابة إن من التفتيش المالي أو من ديوان المحاسبة»، يردّ صباغ. نفاتحه حول مسألة التوظيفات التي حصلت بعد العام 2017 رغم قرار الدولة بمنع التوظيف، فيجد أن «الخطوة كانت ضرورية للاستمرارية، إذ قام المستشفى بشراء المناوبات نظراً للحاجة الماسة إليها، وقد تمّ ذلك بالتشاور مع وزير الصحة آنذاك». وهل من فواتير تجهيز مضخّمة كما تنامى إلى مسامعنا؟ «أنا لا أتدخّل في عمل قسم المشتريات، ولا أعلم ما يحصل هناك”.
قبل أن نغادر، لم يفت صباغ أن يردّ على ما يشاع عن أملاك تخصّه خارج لبنان مبرّراً إياها بأعمال «فنّية» خاصة تعود عليه بمردود مالي. ذلك قبل أن يعود إلى الشق الإداري ويؤكّد أن باب السلف مفتوح أمام جميع الموظّفين دون استثناء، نافياً نفياً قاطعاً أن يكون هناك من يتقاضى أموالاً إضافية خارج بند الرواتب، حيث أن الدفع يتمّ بحسب المناوبات وعدد ساعات العمل. فهو، كما يقول، يقوم بما يجب من ضغوطات ومتابعة مع وزارة الصحة لاستلام التحويلات الموعودة الأسبوع الحالي، ذاكراً مبلغ 300 مليون ليرة من المتوقّع تسلّمه كمساعدة من بلدية بعبدا، وواعداً الموظّفين بتحويل الرواتب ما إن تدخل التحويلات إلى حساب المستشفى المصرفي.
الوزارة قامت بواجبها…
بعيد مغادرة المستشفى، نتّصل بوزير الصحة العامة، الدكتور فراس أبيض، لمعرفة مصير التحويلات التي أشار إليها صباغ. أبيض أوضح لـ»نداء الوطن» أن عدم الانتظام في تسديد دفعات المستشفيات مردّه إلى سببين: الأول يتعلّق بمشكلة العقود المنتهية مع الوزارة منذ آذار الماضي، وهذا ما يجب مراجعته مع وزارة المالية. «هناك مراقبو عقد النفقات الذي يجب أن يُرسل إلى وزارة المالية كون الأموال تُحجز من موازنة الدولة»، كما يقول. أما السبب الثاني، فيعود إلى إضراب القطاع العام وما نتج عنه من تأخير في العمل في كل من وزارتي المالية والصحة. «للأسف، وقّعت على تحويل بقيمة 50 مليار ليرة للمستشفيات، من بينها المستشفيات الحكومية، لكن وزارتي ليست هي المسؤولة عن صرف الأموال. من يصرف المال ويقوم بتحويله إلى مصرف لبنان هي وزارة المالية». نستفسر من مدير عام المالية بالوكالة، جورج معراوي، فيؤكّد لـ»نداء الوطن» أن لا تأخير من قِبَل وزارة المالية في تسديد أي مستحقات للمستشفيات وأن التحاويل الموقّعة من وزارة الصحة جميعها مسدّدة. أين هي الأموال إذاً؟
لا ندري. لكن أبيض تأسّف لتأخّر صرف مستحقات عاملين في القطاع الصحي ممّن يعرّضون أنفسهم للخطر، مشيراً إلى أن المستشفيات الحكومية هي الأكثر تضرّراً نتيجة الضغوطات التي تمارسها عليها وزارة الصحة لعدم تقاضي أي فروقات من المرضى على عكس المستشفيات الخاصة. لكنه لفت إلى أن الوزارة في صدد إعداد مشروع لتغطية المنح المدرسية والتغطية الصحية، إضافة إلى العمل على زيادة تعرفة الاستشفاء ما يساهم في زيادة إيرادات المستشفيات وبالتالي تسهيل تقاضي الموظّفين رواتبهم. خطوات مرحّب بها، لكنها تبقى منقوصة بالطبع ما لم تُبدِ وزارات أخرى تعاوناً، وأبرزها وزارة المالية المسؤولة عن صرف الأموال وتحويلها إلى المستشفيات. «نتمنى أن تُعالَج الأمور بأسرع وقت لأن المستشفيات، على غرار مستشفى بعبدا الحكومي، جميعها تعاني»، كما يختم أبيض.
اعتقدنا أن الأمور ستبقى تراوح مكانها. إلى أن تلقّينا ظهر أمس اتصالاً من صباغ يبلغنا فيه عن تحويل جزء من رواتب شهر تموز على أن تُستكمل نهاية الأسبوع، شاكراً بلدية بعبدا على مساهمتها. وأضاف أنه سيجري تسديد رواتب شهر آب من المستحقات الوزارية التي ستُحوَّل إلى حساب المستشفى الأسبوع المقبل. كما ذكّر بالإعداد لإقامة أنشطة موسيقية سنوية في ساحة المستشفى كدعم إضافي تأميناً لرواتب الموظفين.
نأمل أن يكون تحريك الملف قد شكّل مقدّمة لمعالجة مستدامة. فالهدف كان وسيبقى الإضاءة على مطالب الموظّفين المحقّة، لا التصويب الشخصي على أي من الأطراف. أما تحديد المسؤوليات، إن وُجدت، حول مسبّبات الأزمة داخل المستشفى، فستكون موضع متابعتنا في المقبل من الأيام.