كتبت ندى أيوب في “الأخبار”:
اللبناني كمن رمي من على حافة مرتفع باتجاه هاوية لا يرى لها قعراً ولا نهاية. وكلما أمعن في السقوط تجرّد من شيء ما. من خدمة عامة. من شبكة أمان اجتماعي. من حق… لتزداد على كاهله أعباء لن يكون آخرها رفع الدعم كلياً عن مادة حيوية كالبنزين وتسعيرها بدولار السوق، مكبّداً اللبنانيين نحو 127 ألف ليرة إضافية على سعر كل صفيحة.
رسمياً، نفض حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمس يده من قطاع المحروقات، تاركاً سعر البنزين عرضة لتقلّبات سعر صرف دولار السوق الحرة الذي لا سقف له. حرر سلامة منصة «صيرفة» من عبء تمويل استيراد البنزين، لكنّه أخضع المجتمع والاقتصاد مرة جديدة لتأثير الأحداث ومضاربات صرافي وتجار السوق الموازية، هكذا اندفع سعر الصرف ليلامس الـ36 ألف ليرة.
بقرار منفرد، أبلغه إلى الشركات المستوردة للنفط ووزارة الطاقة، قرر مصرف لبنان، التوقف نهائياً عن تأمين الدولارات اللازمة لاستيراد البنزين لصالح التجار والشركات المستوردة عبر «صيرفة». وبات على هؤلاء شراء الدولارات التي يحتاجونها من السوق الحرة، التي تقلب سعر الدولار فيها أمس بحدود قريبة من الـ36 ألف ليرة. لم تكن الخطوة مفاجئة، إذ إن «المركزي» كان قد بدأ منذ نهاية تموز الماضي سياسة التخلي عن تمويل البنزين، من خلال خفض نسبة الدولارات التي تؤمنها «صيرفة» للتجار، من 100% إلى 85% ومن ثم 70% فـ 55%، وهكذا استكمل تخفيضه الأسبوعي بمعدّل 15%، إلى أن وصلنا إلى 0% عبر «صيرفة» و100% يشتريها المستوردون من السوق الموازية.
وبناء على الطلب المباشر من مصرف لبنان، أصدرت وزارة الطاقة تسعيرة المشتقات النفطية لتضمينها التخلّي عن دعم البنزين، بعد أن قضى سلامة على أي هامش للوزارة للتحرّك في التسعير، طالما أن محركات السعر الأساسي هي سعر الدولار في السوق الحرّة، وسعر البنزين العالمي. ووفق التسعيرة الجديدة ارتفعت أسعار البنزين أمس بقيمة 20 ألف ليرة، مسجلةً 638 ألفاً للصفيحة من عيار 95 أوكتان، في جدول احتساب الأسعار صباحاً، تزامناً وتسجيل دولار السوق لسعر صرف يوازي 35250 ليرة، أي ما يعادل (18 دولاراً للصفيحة). في حين لو كان التمويل عبر «صيرفة» لا يزال سارياً بنسبة 100%، كما كان قبل نهاية تموز، لكان سعر الصفيحة 511200 ليرة، أي أقل بنحو 127 ألفاً عما هو اليوم.
أحد تداعيات قرار سلامة هو أن سعر صفيحة البنزين قابل للارتفاع أكثر من أي وقتٍ مضى، بما أن الحاكم أعاد توجيه طلب مستوردي البنزين على الدولار من «صيرفة» إلى السوق الحرة بقيمة تقدّر بنحو 200 مليون دولار شهرياً لتأمين ما يلزمهم للاستيراد، مما سيحفّز ارتفاع سعر الدولار نفسه خضوعاً لقاعدة العرض والطلب، وينعكس بدوره ارتفاعاً مستمراً بسعر البنزين، لا سيما وأن المستورد والمحطة يشتريانه بالدولار. وإن دل ذلك على شيء فعلى بوادر مرحلة جديدة من البلبلة لجهة تسعير المحروقات في المحطات، والقلق من عدم الاستقرار في توافر المادة، طالما أن سعر الدولار قد يتغيّر بين صباح ومساء اليوم الواحد بهوامش كبيرة. وتأمل وزارة الطاقة في أن تضبط التسعير بإصدار جدولين للبنزين أسبوعياً، أسوةً بالمازوت والغاز، من دون استبعاد إصدار جدولين، يومياً، في حال تقلّب سعر دولار السوق بهامش يتخطّى الـ500 ليرة، أو تغيّر الأسعار العالمية للنفط بمعدلات معينة.
في الأصل تدخل في احتساب سعر صفيحة البنزين الأسعار العالمية للنفط وتقلباتها، وسعر صرف دولار السوق الحرة وتغيراته، والأكلاف الثابتة بالليرة ضمن جدول تركيب الأسعار. وربما يتأثّر في الأيام المقبلة أيضاً بتقلبات متصلة بتغيّر الجعالات المحليّة لشركات التوزيع وأصحاب المحطات، الذين يرفعون الصوت على خلفية تسديدهم كامل سعر البنزين على سعر دولار السوق الحرّة الآخذ بالارتفاع، في حين أن المحطات تحصل من كل صفيحة على ما يعادل 5% من سعرها. قسم من أصحاب المحطات المملوكة من أفراد، أو شركات صغيرة غير مستوردة للنفط، يهددون بإقفال أبوابهم إذا لم تعدّل وزارة الطاقة قيمة الجعالة، وهو ما يشكل مدار بحث ونقاش بين الطرفين، تجنباً لقرار وقف البيع، وعودة الطوابير.
هي ليست المرّة الأولى التي يعتمد فيها سلامة نهج التحرير التدريجي لأسعار السلع المستوردة، بل هي سياسة اتّبعها مصرف لبنان منذ أيام الدعم. وهي سياسة نُفّذت على سعر صفيحة المازوت ليصبح بالدولار النقدي، في ظل الحديث عن البطاقة التمويلية التي لم تبصر النور بعد. كما نفّذت على أسعار الأدوية. فيما الزمرة الحاكمة تتفرّج غير مكترثة لتبعات ما يقوم به على المجتمع، فارتفاع أسعار المحروقات سينعكس على الدورة الاقتصادية، وأكلاف المواصلات، ونقل البضائع والإنتاج وارتفاع مؤشّرات كافة الأسعار.
أما في ما يتعلّق بـ«صيرفة» نفسها، فكلفة التمويل عبرها صارت في الأشهر الستة الماضية تقدّر بما يراوح بين 4 مليارات دولار و5 مليارات دولار، دُفعت من الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان، الذي يدعي الحاكم نفسه أنه بحدود الـ12 مليار دولار، ما يعني أن «صيرفة» استحوذت على ثلث مدخرات المركزي. وهي في الأساس تموّل من مصدرين: الدولارات المتأتية من التحويلات الخارجية والمتداولة في السوق، ودولارات الاحتياطي الإلزامي. أي أن «المركزي» يضخ الدولار من الاحتياطي إليها، ومنها إلى السوق. وبعد أن شل سلامة السياسة النقدية والقطاع المصرفي عطّل آليات التدخل التقليدية في السوق كالتحكم بأسعار الاحتياطي والفائدة، حلّت منصّة «صيرفة» كتقنية تدخّل وحيدة لمصرف لبنان، وعبرها خلق لنفسه دوراً بدعم سعر الصرف أو زيادة رواتب موظفي القطاع العام، بدعم هذه السلعة وتحرير أخرى. يتدخل من خلالها وبقرارٍ منه بالسياسة النقدية والمالية والاقتصادية، كما يحصل اليوم في ما يتعلّق بتحرير البنزين.