كتبت زينب حمود في “الأخبار”:
جهّزت دور النشر والمكتبات الخاصة نفسها لافتتاح موسم بيع الكتب المدرسية «من دون أن نعرف إن كنّا سنبيع أو لا»، يقول مدير مطبعة ومكتبة. يرى المشهد التعليمي على بعد أيام من العودة إلى المدارس «ضبابياً». فعدا عن التدهور العام للأوضاع في البلاد، تستصعب بعض المدارس إصدار لوائح الكتب لأنها تشكّك في قدرة الأهالي على الدفع. والكثير منهم لم يحسموا خيار مدرسة أولادهم بعد لأنّ شبكة من الأسئلة تدور في رأسهم: هل يمكننا تسديد الأقساط وتكاليف الكتب والقرطاسية والزيّ المدرسيّ؟ كم ستبلغ كلفة الباص المدرسي التي تتأثر بكلفة المحروقات؟ هل يوجد مدرسة ذات كلفة أقل ومستوى تعليمي جيّد؟ هل سيكون هناك تعليم رسمي؟ فكّر الشريف في حلّ «يرضي جميع الأطراف»: تقسيم لائحة الكتب على فصلين، والاقتراح على من يعجز عن تسديد ثمنها دفعة واحدة شراء كتب الفصل الأول وترك البقية لمنتصف العام الدراسي. رحّبت بعض المدارس بالفكرة ووعدته بأن تعرضها على لجان الأهل.
في العام الماضي، تبادل الطلاب، بدعم من المدارس، كتبهم، «ما أدى إلى تراجع مبيعات الكتب الجديدة بنسبة 94%»، بحسب المدير العام لدار الفكر اللبناني جاد عاصي. ومع تحديد وزارة الاقتصاد سعر الكتاب آنذاك على أساس 45% من سعره الفعلي، «أكلناها».
هذا العام، جرى الاتفاق بين نقابة الناشرين المدرسيين ووزارة الاقتصاد على تقاضي 76% من سعر الكتاب الفعلي. يعني من «سيأكلها» هم الأهل. فقد بلغ ثمن سلّة الكتب لتلامذة الحلقة الأولى حوالي 70 دولاراً إذا كانت ذات برنامج لبناني حصراً، وترتفع إلى 200 دولار إذا ضمّت كتباً أجنبية، فيما يرتفع سعر لائحة الكتب لتلامذة المرحلة المتوسطة إلى نحو 100 دولار، و150 دولاراً للمرحلة الثانوية.
مع ذلك، تشكو دور النشر تآكل أرباحها بعد حسم 24% من ثمن الكتاب، عدا عن التخلي عن 20% منه لمصلحة المكتبات، ما يعني تخلّيها عن 44% من هامش ربحها. وتتحدّث عن تكاليف عالية تشمل أسعار الورق (ارتفعت 220% خلال العامين الماضيين)، والطباعة وحقوق المؤلف والرّسام… لكن الخسارة الكبرى، وفق عاصي، ليست مادية بقدر ما هي تربوية، وتتمثل في عدم القدرة على تجديد المناهج وتطويرها. «فلم نعد نتجرّأ على الطلب من المؤلف كتابة مجموعة جديدة من الكتب، وهذا يقتل الإبداع والتطوّر، ويترتّب عليه نتائج وخيمة على المدى البعيد، فالأوضاع المادية تتحسّن مع الوقت لكن خسارة كهذه يصعب تعويضها».
الجدير بالذكر أن أسعار الكتب محدّدة بالدولار الأميركي، وتتأثر بحسب سعر الصرف في السوق السوداء. فهل يعني ذلك أن «قفزاته اليومية» ستبدّل أسعار الكتب باستمرار؟ يجيب عاصي: «لا، لا تتغير الأسعار إلا إذا ارتفع سعر الدولار أو انخفض بنسبة 10%». لكن حتى هذه النسبة ليست بعيدة الأمد، وتتحقق بسهولة خلال أيام. هذا الأمر «يكبّل» أيدي بعض المدارس ويعرقل مهمّة وضع لوائح الكتب، كحال غالبية المدارس الكاثوليكية التي «تطالب بتحديد سعر صرف دولار الكتاب المدرسي ليعرف الأهالي الكلفة التي تترتب عليهم»، كما يقول أمينها العام يوسف نصر، مشيراً إلى أن «تحضير اللوائح أمر يسير على بعض المدارس، وعسير على أخرى وفق البيئة الاقتصادية والاجتماعية لكلّ واحدة وقدرة الأهالي على تحمّل التكاليف».
لم يكن صعباً على مدارس المصطفى وضع لوائح الكتب لجميع المراحل التعليمية منذ العام الماضي. قررت «إبقاء الكتب على ما كانت عليه وعدم تغيير الطبعات إلا في حالات الضرورة كنفاد الكتاب مثلاً، واعتماد الكتب الوطنية التي تحافظ على المستوى التعليمي الذي نريد بأسعار مناسبة، وتفضيل معيار التوفير في الأسعار عند التزاحم بين كتابين، ومباركة تبادل الكتب بين الطلاب»، بحسب مديرها العام محمد سماحة.
من جهة ثانية، هناك مدارس لم يعجبها دور «المتعاطفة» مع الأهالي الذي قامت به خلال السنتين الماضيتين. مسلسل الأزمة بالنسبة إليها انتهى. تصارح الأهالي: لا نقبل بكتب مستعملة، نريد كتباً أجنبية تكلّف نحو ثلاثة أضعاف الكتب الوطنية، سنبدّل الطبعات من دون إحداث أي تغييرات تذكر في المحتوى فلن تتمكنوا من شرائها مستعملة… كما أعادت فتح مزاريب الأرباح المتشعّبة. ففرضت على الأهالي أن تبيعهم قرطاسية بأسعار مرتفعة بحجة توحيد الشعار، إضافة إلى الزيّ المدرسي الذي بلغ ثمنه في إحدى المدارس 175 دولاراً لأنه يتألف من 7 قطع!
يحصل ذلك كلّه من دون تدخّل وزارة التربية والتعليم العالي التي لم تفكّر في دعم الكتاب الوطني على الأقل. وعندما وجد الأهالي أنفسهم متروكين وحدهم وعاجزين عن تحمّل هذه الأعباء المادية، بحثوا في المكتبات الخاصة عن كتب مستعملة، التي تتحدّث ندى، مديرة مكتبة الساحة في برج البراجنة، عن «تهافت» على شرائها. أما الكتاب الجديد «فنطلبه من دور نشر بالحبّة بعد أن يدفع الزبون رعبوناً». جرت العادة أن يباع الكتاب المستعمل بنصف ثمنه جديداً لكن ذلك سيكون «ثقيلاً» على الأهالي مع أسعار كتب «صادمة» تصل إلى المليون ليرة. لذلك، تسعير الكتب المستعملة يخضع «لضمائر المكتبات».
المثير للاستغراب هو كيف تصمد الكتب الوطنية للسنة الدراسية الثالثة؟ فمع بدء الأزمة الاقتصادية منذ عامين والتوقف عن إصدار طبعات جديدة والتوجه نحو الكتب المستعملة، تدور الكتب بين الطلاب، تُمحى ثم يعاد استخدامها، حتى تهترئ، وخاصة أن «الكتب الوطنية لا تخدم أكثر من عامين خلافاً للأجنبية التي تخدم نحو 4 سنوات لأن غلافها سميك وتجري حياكتها بإحكام»، كما يؤكد الشريف. يبدو أن الأهالي يتوسّلون إحياء ميت عندما يبحثون عن كتب مستعملة بحالة جيدة. «لا يُحسدون على هذه الحال»، بهذه الكلمات تختصر رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة لمى الطويل «الضغوط التي تثقل كاهل الأهالي لتأمين تكاليف تعليم أولادهم، وتتعدّى الكتب والقرطاسية إلى الأقساط ورسوم التأمين والزي المدرسي والباص».
يتوجّه بعض الأهالي منفردين إلى تصوير الكتب المدرسية الباهظة الثمن بما يوفر حوالي نصف ثمنها. في بعض الأحيان، يحصل ذلك بشكل منظّم في المدارس التي تحضّر كتيّبات مصوّرة تجمعها من كتاب واحد أو أكثر. هذا التصرف «مخالف لقانون حماية الملكية الأدبية والفنية رقم75/99 الذي يرعى ويحمي أي ملكية فكرية، سواء كانت كتابية أو تصويرية أو نحتية أو خطية أو شفهية»، بحسب المحامي الشريف سليمان. ويجيز القانون مراجعة القضاء المختصّ لاستصدار قرار بوقف الاعتداء على حقوق المؤلف، كما ينصّ على «دفع المعتدي تعويضاً عادلاً عن العطل والضرر المادي والمعنوي اللاحق بصاحب الحق تقدّره المحاكم بالاستناد إلى قيمة العمل التجارية والضرر الذي تسبّب به». و«يعاقب بالسجن من شهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة نقدية من خمسة ملايين إلى خمسين مليون ليرة لبنانية، أو بإحدى هاتين العقوبتين». لكن مهلاً، «أمام أيّ قضاء يقدّم المتضرّر الشكوى؟» يسأل سليمان متأسّفاً على البلد الذي «أصاب الشلل جميع مفاصله». يتفهم الأهالي الذين «أقفلت جميع السبل في وجههم فبحثوا عن أي طريقة للتوفير، هم أصلاً لم يجدوا قضاء يلجأون إليه عندما فرضت عليهم أقساط مدولرة وخيالية».
بدأ التقشف في شراء مستلزمات العودة إلى المدرسة منذ عامين، وفي كلّ عام يزداد قساوة. هذا العام، تخطى سعر صرف الدولار 35 ألف ليرة من دون أن يرافق ذلك تصحيح الأجور. فتخلّى كثيرون عن تجديد الحقائب المدرسية التي يجاوز ثمنها المليون ليرة. وصار شراء القرطاسية بالتقسيط يُمرّر في كل زيارة للمكتبة. وهناك من تخلّى عن «تموين» قرطاسية تكفي طوال العام لأن فاتورتها للتلميذ الواحد تتراوح بين المليون ونصف المليون ليرة والمليونين.
جولة على المكتبات تكشف عن أسعار «صادمة» للقرطاسية. على سبيل المثال: ثمن الدفتر الصغير (50 ورقة) يساوي 17 ألفاً، والكبير 85 ألفاً، والقلم 5 آلاف ليرة، والممحاة الواحدة 11 ألفاً، فيما المبراة 19 ألفاً. وصولاَ إلى عدّة الرسم، ثمن دفتر الرسم المتوسط الحجم 147 ألفاً، وعلبة تلوين الخشب (12 لوناً) 65 ألفاً. أما الآلة الحاسبة فسعرها 17 دولاراَ… تخرج من المكتبة مصاباً بالصداع ويخطر على بالك حرمان الأطفال من متعة اختيار القرطاسية التي تزيد الحماسة للعودة إلى المدرسة. عدا عن ذلك، هناك تلامذة سيحملون لأول مرة كتباَ قد تكون بالية وممزقة، وأخرى مصوّرة تفتقر إلى الألوان، وسيمارسون المقارنة مع أصدقائهم في الصف.
لا تجد أستاذة علم الاجتماع المعالجة النفسية ميسون حمزة أن حرمان الأطفال والتباين الطبقي جديد وينحصر داخل المدارس، هو «يحصل منذ زمن بعيد وأينما كان، لكن توسّعت رقعته مع الأزمة الاقتصادية». تنصح الأهل «بمحاورة أطفالهم، ومصارحتهم بالضائقة المالية والأوضاع الصعبة التي يمرّون بها والتي تجبرهم على التقشف». كما يجب، وفق حمزة، «إعطاؤهم إجابات عن جميع أسئلتهم في هذا المجال لتذليل مشاعر القلق والحرمان والدونية»، إلى جانب طمأنتهم إلى أنها «فترة زمنية محددة وستنتهي».