كتب محمد علي مقلد في نداء الوطن
«بعد بروز الكثير من الخلافات والاختلافات حول الأهداف والأولويات بين مكونات ثورة 17 تشرين، بات من الضروري القيام بتقييم شامل لمسارها، لكي نعرف أين نجحت وأين أخفقت ولماذا. لقد بات من الممكن فرز قواها بين ثلاث فئات، فئة تريد تغيير النظام وأخرى اختارت طريق النقاء الثوري المرسومة معالمه في الكتب، وثالثة حددت هدفها الواقعي المتواضع والصعب في آن، المتمثل باستعادة الدولة ومؤسساتها، وأنا مع الخيار الثالث».
هذا النص كتبه محمد عواضة أحد الرواد والجنود المجهولين في الثورة اللبنانية وأحد منظمي المعركة الانتخابية في دائرة الجنوب الثالثة التي ترشح فيها أحد عشر فدائياً في مواجهة الثنائي الشيعي وفاز للثورة فيها نائبان. إنه نص نموذجي يعبر عن فلسفة الثورة ويمثل أفضل رد على متفلسفين يرمون سهامهم في كل اتجاه ويجهلون المبادئ الأولية في علم السياسة.
هذا النص خلاصة تجربة نضالية بداية صفوفها الأولى في مدرسة «جمول»، المقاومة الوطنية اللبنانية، وختامها انتخابات الدائرة الثالثة في الجنوب، التي تمكنت الثورة فيها دون سواها من الدوائر، من تجميع قواها في لائحة واحدة ووحيدة في مواجهة محدلة ثنائي الممانعة.
نص يردّد على مسامع متفلسفي الثورة قول أبي نواس، «قل لمن يدّعي في العلم فلسفة… حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء» ويدعوهم إلى أن يتعلموا منه مجموعة من الدروس أولها وأهمها أن الثورة ليست ملكاً لطرف دون سواه، بل هي صناعة لبنانية قوامها التنوع والاختلاف داخل الوحدة.
لم يكن ممكناً تجميع حاصل انتخابي في تلك الدائرة لولا اتفاق المختلفين وتجمع المتنوعين على هدف واحد. لقد خاضت القوى ذاتها معركتها في الدورة السابقة من دون اتفاق أو تنسيق في ما بينها فمنيت بهزيمة منكرة. في هذه الدورة صح القول: تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً… وإذا افترقن تكسرت آحادا. مع قانون انتخابي آخر يسهل فوز الثورة بأربعين بالمئة من المقاعد.
الدرس الثاني عنوانه القدرة على تقديم تنازلات ثانوية من غير المساس بالمبادئ. بهذا المعيار بذلت قوى الثورة في دائرة الجنوب الثالثة كل ما يلزم لتسهيل انخراط الحزب الشيوعي في المواجهة، رغم خلافها معه في اصطفافه السياسي القريب من الممانعة وفي وجهات نظره حول أولويات الثورة وأهدافها وآليات عملها، وتمكنت بالتعاون معه من تحقيق الخرق.
الدرس الثالث هو أن التمسك بالمضامين ذاتها من دون أي تعديل لمصطلحات وشعارات تم رفعها في 17 تشرين يحول كلام الثورة إلى خطاب خشبي ويحرمها من بيئتها الحاضنة، ذلك أن الثورة تمكنت من تفكيك «المنظومة» أو «الطبقة الحاكمة» وحشرت في زاوية الاتهام السياسي الضيقة تحالفاً ثلاثياً من أهل الممانعة.
أخذ المتفلسفون على نواب الثورة سعيهم إلى المشاركة في بناء تحالف نيابي يحول دون وصول مرشح ممانع إلى سدة الرئاسة. الذريعة مستلة من مخلفات الجمود العقائدي، وهي تستحضر بعض لغة الحرب الأهلية وتدعو إلى حظر التعاون مع «قوى تقليدية» أو مع زعامات سياسية «موروثة»، مع أن بعض هذه الزعامات أكثر حداثة وتعقلاً ممن يتسلل إلى صفوف الثورة متسلحاً بشهادة أكاديمية أو بلغة ثورجية منمقة أو مستخدماً مصطلحات التدمير والتغيير وإسقاط النظام وغيرها من أساليب «تكبير الكلام».
«المنظومة» التي كانت تضم عشية الثورة كل مشارك في السلطة (كلن يعني كلن) اقتصرت غداة الثورة على الثنائي و»التيار». هذا التحول تكرس في الانتخابات بعد سقوط أدوات النظام السوري ورموزه، وبات من واجب الثورة تسهيل المهمة أمام من يريد الانتقال إلى صفوف المعارضة، وخصوصاً أمام من لم يكونوا شركاء في السلطة. أما التصويب على منظومة انفرط عقدها فهو قصف عشوائي يأخذ الصالح بجريرة الطالح ويشكل تعمية للحقيقة وتضييعاً لبوصلة الثورة.
لا يعرف المتفلسفون الفارق الجوهري بين «حكي القرايا وحكي السرايا» بحسب تعبير سلام الراسي. ولا يرون المسافة الفاصلة بين «بوست» على مواقع التواصل يطلقه أحد متهوري السياسة وتصريح يطلقه زعيم أو مسؤول. إنها المسافة بين كلام عن كاميرات مراقبة في المطار عام 2008 ولقاء «دبلوماسي» مع «حزب الله» عام 2022. وهي ليست مسافة بين زمنين بل بين لهجتين من لغة السرايا، إحداهما «بتحنّن والثانية بتجنّن» وكم يحتاج لبنان إلى لغة التحنان لا إلى لغة الجنون.
الثورة حققت إنجازاً كبيراً في الانتخابات، ولن تتمكن من مضاعفة أعداد نوابها في الدورات المقبلة إلا إذا تضاءل عدد متفلسفيها.