يحضرني ما قاله سياسي لبناني مخضرم بسخرية، إن لبنان يشهد منذ الإعلان عن موعد الانتخابات التشريعية فائضاً من التعليقات والتحليلات والآراء، غلب فائض القوة والسلاح عند حزب الله. في الواقع، اتسم الحبر الذي سال بشأن هذا الاستحقاق الدستوري والتوقعات منه والتعليق على نتائجه بالمبالغة، ما أطاح أو يكاد بحقائق كثيرة وأشاع أجواء إما منتشية أو محبطة والجامع المشترك بينها هو غلبة التمنيات والبعد عن الواقع لدى الأطراف الرابحة والخاسرة معاً، فبات المراقب ضائعاً لأن الجميع يزعمون انتصارات مدوية وإلحاق الهزائم النكراء بمنافسيهم.
النتائج هي طبعاً الفيصل، وهي تظهر من دون مواربة أن حلف الممانعة مني بخسارة أفقدته عدداً من المقاعد في البرلمان في تراجع يُعتبر ترجمة لتحولات يمكن تلخيصها بالآتي: سقوط فلول الوصاية السورية في انعكاس لانهيار النظام السوري إقليمياً وتحوله إلى مجرد تابع للاعب الإيراني من جهة وانتهاء صلاحية معظمهم لدى حزب الله، تغير طفيف إنما ملحوظ في مزاج القاعدة الشعبية للثنائي الشيعي لا سيما تلك الموالية لحزب الله، وتجلى ذلك من خلال تراجع الإقبال على التصويت في مناطق سيطرتهما رغم كل التجييش الذي قاما به جزرة كان أم عصا، حالة تغييرية في البيئتين المسيحية والسنية أظهرت مزاجاً أقرب إلى نبذ الأحزاب التقليدية والميل إلى تيار مستقل عابر للطوائف يشبه ثورة 17 تشرين. وأخيراً، لا يغيب عن المشهد الارتباك لدى الطائفة السنية جراء عدم وصول كتلة سنية برلمانية وازنة ذات مرجعية واحدة كما هي الحال لدى الطوائف الأخرى.
في المقابل، حققت المعارضة بشقيها التقليدي والتغييري تقدماً وخرقاً ملموسين، لا سيما حزب القوات اللبنانية على حساب خصمه المسيحي التيار الوطني الحر ومرشحي القوى التغييرية. ومع ذلك، لم ينجح أي فريق في الحصول على أغلبية برلمانية تؤهله لأن تكون له أو لفريقه كلمة الفصل في القرارات، علماً بأن النظام السياسي الطائفي في لبنان وبدعة «الديمقراطية التوافقية» المستجدة لا يسمحان أصلاً بحكم على أساس «الأكثرية تحكم والأقلية تعارض».
ومع ذلك، وإذا سلمنا أن نظام لبنان هو برلماني، لن تصبح المعارضة السابقة المحيّرة بين «سياديين» و«إصلاحيين» الأكثرية الجديدة إلا عبر توحيد صفوفها وتكوين جبهة واحدة قادرة على إحداث تغيير فعلي وحماية هذا التغيير. قد يحول دون ذلك عقبات كثيرة أبرزها تباينات على أكثر من مسألة وعدم وجود رؤى وخطط وبرامج معدة من قبل الأطراف تجعل الاختراق الذي حققته يتجاوز الغلبة في المقاعد ليترجم في السياسة ويلغي سلسلة الانقلابات التي قام بها حزب الله وأدواته سعياً لتغيير هوية لبنان وأنماط عيشه ودوره في المنطقة. المواجهة الثقافية والحضارية والسياسية هذه لن تحققها مجرد غلبة في المقاعد دون إجابات واضحة عن مفهوم الأمن القومي والدفاعي، ومسار السياسة الخارجية والسياسات المالية والنقدية، وإصلاح الإدارة ومكافحة الفساد واللامركزية. وتبقى القضية الأهم هي النظام السياسي المعتمد الذي يصعب اليوم تصنيفه لغربته عن الأنظمة السياسية المعروفة كافة، لدرجة لا نبالغ معها إذا قلنا إن الدولة في لبنان بالمعنى القانوني والدستوري للكلمة لم تبن بعد. لن تكون الأكثرية الجديدة فاعلة إذا لم تضع لشعاراتها حول هذه المسائل الجوهرية مضامين تقدم بدائل مقنعة وواقعية تستطيع بواسطتها أن تطال عمق الشرائح اللبنانية الطائفية والمذهبية والاجتماعية المتعددة، لا سيما الاجتماع الشيعي. فمحور الممانعة، وعلى رأسه حزب الله، له رؤيته حول أي لبنان يريد سياسياً وأمنياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، وهي رؤية ثُبت ضررها إذ جعلت البلاد على ما هي عليه اليوم من فوضى وتعطيل وانهيار اقتصادي ومالي وعزلة إقليمية ودولية.
لذلك ثمة إجابات كثيرة مطلوبة من هذه الأكثرية الجديدة التي ما تزال «أكثرية بالقوة»، أولها يتعلق بتحديد واضح للنظام السياسي الذي تريده والمسألة شائكة، إذ أكبر علماء السياسة اختلفوا في تعريف النظام السياسي اللبناني، حيث وصفه مايكل هيدسون بالديمقراطي الأوليغرشي وجون كلود دفنس بالبوليارشي وجان سلمون بالفوضوي. أما ثانيها، فهو يتعلق بما يسمى الاستراتيجية الدفاعية، ونقول ما يسمى، لأن مجرد طرحها هو اعتراف بعدم حصرية السلاح بيد الدولة. هل تريد الأكثرية الجديدة مواصلة المواجهة مع إسرائيل وعسكرة النظامين الاجتماعي والاقتصادي في البلاد أم لا؟ إذا نعم، كيف تحل مشكلة السلاح الخارج عن الدولة؟ عبر دمج حزب الله بالجيش وبأي صيغة؟ أو إبقاء الأمور على ما هي عليه ضمن المعادلة الثلاثية؟ وإذا لا، كيف تنوي مواجهة ليس فقط سلاح الحزب بل القوة المحلية والإقليمية التي بات يتمتع بها؟
إلى هذا، ثمة أربعة مخاطر تهدد نتائج هذا الاستحقاق الذي وصف بالحاسم: في السياسة، خفوت حماسة التمسك باتفاق الطائف لدى غالبية الكتل المسيحية وحزب الله. في الاقتصاد، يبدو أن الانفجار المالي والاجتماعي على الأبواب بسبب التعثر المنتظر في سير عمل المؤسسات الدستورية لا سيما موضوع الاتفاق على الحكومة الجديدة واستحقاق الانتخابات الرئاسية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. في الأمن، الخشية من أن يلجأ حزب الله إلى عضلاته للرد على محاولة عزله ومحاصرته، وقد يلوح في الأفق شبح توترات على الحدود مع إسرائيل يصعب التكهن بتداعياتها على غرار ما شهدناه إبان فوز قوى 14 آذار في انتخابات سنة 2005 باندلاع حرب تموز 2006 مع إسرائيل.
ليس المقصود الشك في كفاءات كثيرة لدى هذه الأكثرية الجديدة، إنما الحذر واجب بناء على تجارب الماضي في لبنان للإفادة من الوقائع التي عكستها نتائج هذه الانتخابات والبناء عليها وإلا عدنا إلى نقطة الصفر ودخلت البلاد في حالة أكثر تعقيداً. المطلوب إلى جانب التواضع والتضحية والواقعية التنبه إلى جهوزية حزب الله الدائمة لإخراج الأرانب من جعبته وقلب الحقائق إذا جاءت لغير مصلحته. فكما فعل إبان انتخابات 2009 حين نادى بغلبة الشرعية الشعبية مقابل الشرعية الدستورية التي جاءت بها الانتخابات يومها، ها هو أمينه العام حسن نصر الله يخرج علينا في خطابه الأخير يوم الجمعة الفائت بالفصل بين الدولة والسلطة إذ قال ما معناه إن ما يهمهم كحزب هو أي سلطة تأتي بمعنى إذا جاءت مخالفة لسياساته لن يعترفوا بها! بشائر تقتضي التنبه والحذر.
وسط كل ذلك، لم يغب العامل الدولي والإقليمي ولا مرة عن المشهد، بل كان وما يزال لاعباً رئيسياً، فعسى أن يكون قد استمع لرغبة غالبية اللبنانيين ومن كل الطوائف. إنما يبقى الاستماع شيئاً فيما تكون «الموافقة والانصياع» شيئاً آخر.
المصدر: الشرق الأوسط