“يتّسع لما بين 70 إلى 80 شخصا؟ّ”… اليكم قصّة “زورق الموت” من البداية

هنالك العديد من علامات الاستفهام التي يجب توضيحها. لِمَن يدفع الفارّون “رشوةً” عبر البحر؟ وكيف وصل مركب مهاجر إلى قبرص بعد أقلّ من 24 ساعة على حادثة غرق مركب اليأس والموت في بحر طرابلس؟ مع أنّه يوجد على متنه عددٌ يوازي أو حتى يفوق العدد الموجود على متن القارب إيّاه؟

كيف وصل مركب آخر، انطلق قبل ثلاثة أيّام من حادثة الغرق، إلى إيطاليا سالماً غانماً بحمولته البالغة 200 شخص، علماً أنّ وصول هذين المركبين يدحض تماماً للظرية العسكرية عن الحمولة المؤدّية إلى الغرق؟ لماذا لم يتعرّض هذان المركبان لِما تعرّض له القارب الغارق؟

ولماذا تمّ تسريب فيديوهين، واحد قبل الاصطدام وآخر بعده، بحيث يبدو وكأنّ الجيش لا يريد لتلك اللحظة أن يشاهدها أحد؟ أسئلة كثيرة وتناقضات أكثر ولا أجوبة.

تعالوا نخبركم القصّة من البداية:

ما بين الريفا والبقّار، وهما حيّان شعبيّان متلاصقان في محلّة القبّة، يتوزّع أهل مَن كان على متن مركب المهاجرين الذي هوى. هم جيران وأصدقاء أجمعوا على الخروج من بلد هرِم بسرعة قياسية، قاصدين القارّة العجوز هرباً من اليأس والقهر والإحباط. وفي الريفا يقطن آل الدندشي النّاجون والمتّهمون في الوقت نفسه.

بلال، رائد، عميد دندشي ثلاثة أشقّاء قاموا منذ 3 أشهر بشراء قارب للهجرة، غداة محاولة أولى فاشلة لبلال ورائد في 21 تشرين الثاني الماضي، عندما اتّفقا مع أحد المهرّبين على الخروج بحراً، ودفعا له مبلغ 46 ألف دولار. كان الاتّفاق أنْ تكون الرحلة على متن قارب خشبي متين وبسعة قصوى 60 شخصاً، لكنّهما فوجئا وقتها بوجود حوالي 100 شخص. وبعدما وصل القارب إلى المياه الإقليمية تعرّض لعطل أوقفه عن الحركة، فحضر خفر السواحل واستعان بزوارق بحريّة لإعادته إلى مرفأ طرابلس. حينها أُوقف رائد الملقّب بـ”الأشقر” بتهمة التهريب، وما لبث القضاء أن أطلق سراحه.

تجهيز اليخت وصيانته

يقول عميد إنّه بعد مفاوضات مضنية تدخّل فيها الوسطاء نجحوا باسترداد نصف المبلغ، وعقدوا العزم على شراء مركب خاصّ بهم. وكلّفوا ميكانيكياً متخصّصاً بالسفن بالإشراف على صيانته وتجهيزه بأفضل التجهيزات، وكان معهم في الرحلة عينها.

يؤكّد عميد أنّ المركب يتّسع لِما بين 70 إلى 80 شخصاً، وينفي رواية قائد البحرية في الجيش، العقيد هيثم ضنّاوي، الذي ادّعى أنّه لا يتّسع إلّا لـ10-15 شخصاً مستشهداً بتركيب الشركة المصنِّعة 45 مقعداً على متنه.

يلفت عميد إلى أنّهم أجروا دراسات معمّقة لليخت، حسب توصيفه، قبل بدء الرحلة، وكان مجهّزاً بـ3000 ليتر مازوت، وخرائط ملاحيّة، وجهاز تحديد المواقع (GPS)، وهاتف الثريّا، وإنّهم ما اختاروا موعد الانطلاق إلّا عقب تحرٍّ عميق عن حال الطقس والبحر من لبنان إلى إيطاليا الوجهة الأخيرة.

يشدّد على أنّهم لم يخرجوا إلّا بعد التأكّد من متانة القارب وقدرته على الوصول إلى مقصده، “فهل يُعْقل أنْ نخاطر بأرواحنا وأرواح زوجاتنا وأبنائنا؟”.

الجيش كان يعلم

يشير عميد إلى أنّ قاربهم طوال هذه المدّة كان مركوناً قرب أحد مراكز الجيش، وتحت سمعه وبصره. أضف إلى ذلك وجود وثيقة اتّصال (على الرغم من عدم قانونيّتها) صادرة بحقّ المركب ورد فيها أنّ أشخاصاً من آل الدندشي سيقومون بالهروب من البلاد بحراً باستخدام هذا القارب، الذي تمّ ركنه في الموقع الذي انطلق منه منذ منتصف نهار السبت.

يخلُص عميد إلى وجود نيّة مبيّتة للتخلّص منهم، ولا سيّما أنّ الجيش لم يتحرّك إلّا بعد ساعتين من بدء الرحلة، حينما كان القارب على وشك بلوغ المياه الإقليمية. وخلال هاتين الساعتين كانت الرحلة ممتازة ومياه البحر صافية بعكس ما تحدّث عنه بيان الجيش.

الاصطدام والصدمة

تقول رواية بلال وشقيقه عميد إنّ زروقاً لبحريّة الجيش كان يلتفّ حول قاربهم مُدخلاً المياه إلى داخله وهي لعبة الدوران حول المركب المقصود الذي يقوم به خفر السواحل في الحالات المماثلة، في حين كان طرّاد الجيش الفولاذي على مقربة منهم وعلى متنه ضابط برتبة نقيب أخذ يكيل الشتائم والتهديدات بالغرق لِمَن هم على متن القارب حسبما أجمعت شهادات الناجين.

في روايتهما أنّ طرّاد الجيش السريع التفّ وصدم بمؤخّرته القارب فتصدّع وبدأت المياه بالتسرّب إلى داخله. لم يكتفِ بذلك، بل ذهب إلى الأمام قليلاً، وتقصّد الوقوف مُطفأ الأنوار في ظلّ ظلام دامس بشكل يجعل قاربهم، المطفأ الأنوار أيضاً كي لا يراه أحد، يصطدم به. وهو ما حصل فاصطدمت مقدّمة قاربهم “الفايبركلاس” بمنتصف الطرّاد الفولاذي فكانت الضربة القاضية. انقسم القارب إلى قسمين، وهوى القسم الأماميّ في غضون ثوان معدودة إلى الأسفل، ولم يتمّ إخراجه حتّى الساعة.

يقول عميد إنّه لو كان سبب غرق القارب حمولته الزائدة لكان من المفترض أنْ يغرق مَن هم في مؤخّرة القارب حيث الثّقل الشديد، لكنّ العكس هو الذي حصل، إذْ نجا أغلب مَن كانوا في الخلف، ولا يزال مَن كانوا في المقدّمة في عداد المفقودين. في هذا الصدد يشير بلال وعميد إلى أنّ الجيش لم يسارع إلى إنقاذهم، بل وقف على بعد عدّة أمتار قبل التحرّك ليرمي أطواق النجاة المحدودة، ومَن كان يجيد السباحة منهم بقي على قيد الحياة وتعلّق به مَن كان لا يجيد السباحة.

عندما سُئل عن سترات النجاة أجاب عميد بأنّها كانت موجودة، لكنّهم لم يرتدوها خوفاً من انعكاس نورها الذي قد يكشفهم، ولم يدُرْ في خلدهم أنّ طرّاد الجيش قد يقوم بإغراقهم، وهي رواية تتقاطع مع رواية بعض الناجين الآخرين.

لماذا اتّهام الجيش؟

هنا يبرز السؤال الأهمّ: لماذا قد يقوم طرّاد الجيش بإغراق القارب بمَن عليه؟

يُحيل أبناء أسرة الدندشي السبب إلى أنّهم ربّما لم يدفعوا رشوة كما يفعل الباقون. ويقول بلال إنّ صاحب المركب الذي حاولوا الخروج بواسطته منذ أشهر دفع مبلغ 7 آلاف دولار لغضّ النظر عنه. بيد أنّ للجيش نظريّة أخرى، إذْ يتّهم رائد بقيادة شبكة للتهريب، وقد أُلقي القبض على السائق السوري الجنسيّة، وكان رائد نفسه قيد التحفّظ في المستشفى الحكومي، وتحت ضغط الناس المتجمهرين وهول الفاجعة تُرك حرّاً، على أنْ يتمّ اعتقاله حينما تهدأ العاصفة، وهو ما يدركه تماماً رائد وأشقّاؤه.

لا ريب أنّ هناك شبكات تهريب ناشطة وقوية في لبنان، لكن هل يُعقل أنْ يقوم مهرّب برمي نفسه وزوجته وأبنائه في التهلكة؟ سؤال لا بدّ منه في خضمّ محاولات قلب الحقائق وتحريفها. وفي حال إصرار الدولة عليها فإنّ هذه الرواية ستدخل التاريخ كأوّل حادثة تهريب يقتل فيها المهرِّب أسرته.

المصدر : اساس ميديا_ سامر زريق

شاهد أيضاً

“استقلال البلد مهدد”… باسيل: دخلنا في حرب لم يكن يجب أن نقع فيها

أكد رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل أنَّ “الحفاظ على الإستقلال هو أصعب من …