“رحلة الموت” في يأس طرابلس وبؤسها المتمدّد…”نحن ضحايا السلطة”

مقوّمات الحياة في طرابلس تزوي على وقع انهيار شامل لدولة لبنان، لكن المدينة تحتفظ بتطرّفها في تمثّلات البؤس والمأساة، وقد أطلّت أخيراً بوجه “قارب الموت” الّذي هرب على متنه يوم السبت بين 60-75 شخصاً أغلبهم من اللبنانيين، إضافة إلى سوريين وفلسطينيين. وتمكّن الجيش حتى مساء الاثنين من انتشال 7 جثث، وإنقاذ 48 ناجياً، فيما يصَعُب تأكيد عداد المفقودين بسبب إلتباس أعداد الراكبين، ومعلومات “النهار” تشير لضلوع ثلاثة سماسرة ألقي القبض على واحد منهم… لكن المؤكّد بلسان الناجي أبو ابراهيم دندشي، الّذي فقد زوجته وطفليه، أنّ “المركب لم يغرق فحسب، طرابلس كلّها غريقة. هذا ما فعلته السلطة بنا”.

“يا هلا”، هذا اسم القارب الذي هلّل بركّابه للموت. انطلق نحو الشواطىء الإيطالية مساء السبت من القلمون، في نقطة تنشط للهروب عبر البحر من خلال سماسرة لقاء مبلغ من المال، بلغ نحو ألف دولار على الشخص في الرحلة الأخيرة.

يطفو على وجه البحر قماش زهريّ، ظنّ منقذون أنّه فستان لطفلة، لكن تبيّن أنّه شنطة. على بعد أمتار، ما يلبث أن يصيح أحدهم “لقد وجدنا جثّة!”، فتظهر بالفعل جئة لامرأة ترتدي السواد، لا نعلم إن كانت الشنطة لطفلتها التي قضت أو نجت بجسمها الضئيل، وقد يكون أبو ابراهيم هو من أنقذها، فـ”لقد لملمت أولاداً ليسوا أولادي، لكنني كنت أتضرع لله: يا ربّ، سخّر لي من ينقذ أطفالي”، لكن قضى من أربعتهم اثنين.
البحر يفرك جرح طرابلس بالملح، لعلّها أصعب وجوه الهوان الّذي تعيشه المدينة، فلا عزاء أو تحسّس لقيمة أرواح الطرابلسيين، وهم يسألون من هؤلاء السماسرة، ولماذا لا يعاقب المتاجرين بأمل أهاليهم الهش. لماذا لا يُكرّس الأمن الاستباقي على شاطىء طرابلس، وخصوصاً أنّ معابر الهرب باتت معروفة عند القلمون والميناء والعريضة؟

ويتردّد في طرابلس سؤال حول الملابسات الحقيقيّة لحادثة غرق المركب، بسبب تضارب الروايتين بين الناجين الذين اتهموا مركباً أمنياً بصدمهم، وبيان الجيش الذي عزا الغرق لحمولة المركب وأنّه قديم من السبعينيات. لا بدّ من تناول غرق المركب بتحقيق شفّاف ومحايد، فالأمر ليس تفصيلاً، ويشكّل ضرورة في نفي أو تثبيت “الخصومة” الملتبسة التي عاشتها طرابلس مع أجهزة الدولة، بالرغم من محاولتها ترميم الصدع، وليس فقط لأن طرابلس وعكار تُشكلان خزّان الجيش الّلبناني.

ولعلّ النتيجة الأقرب لتشظية الوضع الأمني بسبب غياب الرواية المقنعة، دفعتها منطقة القبّة التي تضم النذر اليسير من الهاربين على قارب الموت، وقد شهدت الأحد هرجاً ومرجاً بالسلاح في ساحة البقار، وأزيل أحد حواجز الجيش عند الطبابة العسكرية، ونثر الرصاص العشوائي الرعب لساعات طويلة، ورصاص استهدف المواطن محمد مراد لأنّه رفع صورة زعيم، فيما الشارع كفر بزعمائه وبكلّ رموز الدولة، وسط محاولات هزيلة لبعض المرشحين في التسويق لتعاطفهم مع اقتراب موعد الانتخابات!

“زوارق الموت” بالأرقام
يمكن تشبيه “قوارب الموت” غير النظاميّة بملحمة بحريّة طويلة تدور رحاها في شواطىء طرابلس منذ نشوب الحرب السورية في عام 2011، ونشطت بكثافة في عام 2015، لتستأنف مسلسلها منذ الانهيار الاقتصادي في 2020، ولا بشائر بانحسارها.
الأرقام محمّلة بعيّنة من الوجع، فقد تمكّن الجيش في العام 2021 من ضبط 21 قارباً، كان يستعدّ لتهريب 707 أفراد. وفي ضوء تنامي الفقر والبؤس في لبنان، تبدو هذه الأرقام مرتفعة بالمقارنة مع عام 2020، حين ألقى الجيش القبض على 4 قوارب كانت تضمّ 126 فرداً، وظروف مشابهة تتكرّر في تعرّض العائلات للضرب من خفر السواحل اليونانية ثم سجنوا في تركيا (تشرين الأول 2021)، وحين هرب العشرات من طرابلس (تموز 2020) وتوفي أطفال على متن القارب بظروف مرعبة بسبب نقص الغذاء والماء.

بحث الهاربون على متن “قارب الموت” عن كرامتهم المسلوبة في عرض البحر، وهم أيقنوا منذ عقود أنّهم لن يجدونها في مدينة ابتلعها الظلام منذ أسبوع، وينفلت فيها الأمن بإشارة خضراء من “قادة محاور” وفتيتهم القابضين على أحياء تلتف عشوائياتها على رقبة المدينة وأقفلت تدريجياً بوجه أبنائها سبل العيش في أزمة بنيويّة تعانيها منذ ولادة لبنان. وبالرغم من أن طرابلس رفعت “صك براءة” خلال ثورة 17 تشرين، مؤكّدة التحاقها بالمشروع الوطني، لكن سرعان ما فهمت أنها محاولة عقيمة، صفّرتها ثاني أكبر أزمة اقتصادية في العالم مع سيبان أمني تمدّد من خاصرة طرابلس الرخوة نحو داعش في العراق، تتلقف منها بين الفينة والأخرى أسماء شبّان بدون أفق، قُتلوا فألقوا جلباب “الإرهاب” مجدّداً على المدينة. ومَن “لا” يعنيهم الأمر من حيتان طرابلس الساسة، وهم ينشغلون بمراكمة ثروات خرقت أرقامها الفاحشة السقوف العالمية، فيما أوحي لأحد متابعي تغطية “النهار” أنّ سقوف أحزمة البؤس في حارة البرانية ستنهار فوق رؤوس أصحابها عند أخفّ هزّة أرضيّة، ولم ينظر إلى الداخل حيث خارت الأمعاء ويبست الأحلام في بيوت لا ترى النور.

وفيما الصبيّة مروة (24 سنة) التي احتفت بخطوبتها قبل ثلاثة أيام من الكارثة، تهدهد أملها بعودة خطيبها محمد ناجياً من قارب الموت، وعلى وقع رصاص يطلقه غاضبون في شوارع التبانة خلال تشييع الطفلة تالين الحموي وأمها سارة طالب، وبعدهما الطفل بهاء الدندشي، وقد بقي أقرانه جاد وماسة ومحمد سبسبي في عداد المفقودين، يصدح من “ألم في الطبقة العميقة”، المقال لجهاد زين (أيلول 2020)، استنتاج في عبثية “قوارب الموت”، التي لن تقف عند حدّ ما لم يحاسب السماسرة ويلجم طمعهم، ويطّلع أهالي طرابلس على رواية غير مستعجلة حول غرق أحبّتهم وأولادهم، فإذ “يختلط منذ سنوات دم الفقراء بمياه البحر الأبيض المتوسط”، و”أسماكها صارت وحشية لكثرة ما التهمته وتلتهمه من جثث الهاربين وأطفالهم. وإذ نأكل أسماك شواطئنا فكأننا نعيد التهام بعضنا البعض”.

المصدر: النهار

شاهد أيضاً

“استقلال البلد مهدد”… باسيل: دخلنا في حرب لم يكن يجب أن نقع فيها

أكد رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل أنَّ “الحفاظ على الإستقلال هو أصعب من …