كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:
دخلت الحرب الروسية – الأوكرانية عاملاً من عوامل الانقسام السياسي في لبنان. إذ إن آثارها ستعيد رسم حدود سياسية في المنطقة، وتساهم في تكريس صورة تراجع النفوذ الغربي.
لا يمكن تخطّي ما يحصل في أوكرانيا، ليس بسبب أزمة القمح العالمية وارتداداتها في لبنان الذي بدا مسؤولوه وكأنهم فوجئوا بها، فلم يعملوا على إعداد مخزون قمح كاف، بل بما تثيره الحرب التي اندلعت من مقارنات سبق أن عاشها اللبنانيون.
لم يتابع عموم اللبنانيين تطورات مالي ولا الانسحاب الفرنسي، ولا أخبار الانتخابات الرئاسية في باريس، أو مناقشات مجلس العموم البريطاني حول أداء رئيس الوزراء بوريس جونسون. لكن أوكرانيا تحوّلت حدثاً سياسياً وكأنها على بعد كيلومترات من بيروت، فغيّبت أحاديث الانتخابات والوضع الاقتصادي وأزماته والهموم اليومية. وكشفت في الوقت نفسه الانقسام السياسي والشعبي تجاه أزمة عالمية.
في 13 تشرين الأول 1990، دخلت القوات السورية القسم الشرقي من بيروت على وقع قصف جوي وبري. حتى اليوم، لا يزال صوت الطائرات السورية يتردد صداه فوق القصر الجمهوري. بين 1990 و2005، عاش فريق من اللبنانيين المعادلة نفسها، حين «تخلى» الغرب، والأميركيون تحديداً، عنهم، فتولّت سوريا رعاية الوضع اللبناني. ولعل هنا مكمن الانقسام اللبناني حيال الحرب الروسية – الأوكرانية. ورد الفعل لا يتعلق بمسميات هذه الحرب ولا في النظر إليها من زاوية إنسانية بعد أخبار الموت والتدمير والتهجير والنزوح التي عرفها اللبنانيون طوال حروبهم. بل تتعلق بما قامت به دول أوروبية وواشنطن حيال أوكرانيا، قبل الأزمة وبعد اندلاع الحرب.
فروسيا، كدولة، لم تشكّل في حد ذاتها عامل انقسام بين قوى 8 و14 آذار في لبنان. إذ لم تقف ضد أي قوة لبنانية لا في الحرب ولا بعدها. ومنذ أن تكرس الانقسام اللبناني بين قوتين سياسيتين عام 2005، وخلال حرب تموز وبعدها، نسجت موسكو علاقات متوازنة مع الأطراف اللبنانيين. ورغم أن قوى 8 آذار حوّلت موسكو واحدة من القوى التي تريد من خلالها تصويب الاتجاه الاقتصادي شرقاً أو نسج علاقات تتعلق بالمسيحية المشرقية. لكنها كديبلوماسية سعت إلى إقامة توازن لم يعكّره دورها في سوريا.
فحرب سوريا ساهمت في تقريب موسكو من المتوسط، لكنها لم تغرقها في الرمال اللبنانية إلى الحد الذي يمكن معه فرز اللبنانيين مع روسيا أو ضدها بالمطلق. يمكن لأداء بوتين نفسه أن يشكل عامل استفزاز أو العكس، نتيجة تعامله مع قوى المعارضة داخل بلاده، وطموحه إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية. لكن الحرب الأوكرانية جعلت اللبنانيين والأطراف السياسيين يتماهون مع طرفي الحرب: فريق مع روسيا وآخر مع أوكرانيا. وعمق الانقسام يتعلق بالرؤية تجاه الدول الغربية وواشنطن تحديداً في ما آلت إليه أوضاع أوكرانيا، واحتمال إسقاط المشهد الأوروبي والأميركي على لبنان انطلاقاً من التجارب السابقة.
منذ أن هدد الرئيس باراك أوباما بضربة لم تحصل على سوريا بسبب الأسلحة الكيميائية، وصولاً إلى أداء الرئيس الأميركي جو بايدن في الشرق الأوسط بعد خروج الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، ثمة ما يقلق حلفاء واشنطن من تداعيات السياسة «الديموقراطية» على لبنان كواحدة من ساحات تتخبط تحت وطأة القرار الأميركي بالانسحاب من المنطقة بالمطلق أو عدمه. لذا، من الطبيعي أن يتماهى أفرقاء لبنانيون مع الأوكرانيين تحت وطأة الدخول الروسي، لأن كل التحذيرات الغربية لروسيا لم تكن بالحجم الذي يخيف بوتين، تماماً كما حال العقوبات الأميركية وبعض القرارات الدولية التي سبق أن عرفها لبنان ولم تنفذ، أو البيانات التي تدعو إلى احترام المواعيد الدستورية الانتخابية يوم طاول التمديد لمرات السلطة التنفيذية والتشريعية.
والتلويح الأوروبي بعقوبات على روسيا يشبه تماماً تحذيرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعقوبات على سياسيين لبنانيين، وإقناع الاتحاد الأوروبي بخطوات مماثلة لم يتحقق منها شيء. والدول الأوروبية عالقة في مواسم انتخابية (كفرنسا)، أو معالجة أوضاع داخلية متعثّرة بعد أزمة كورونا، وستنشغل أكثر مع تداعيات حرب أوكرانيا والخوف من اللاجئين والآثار الاقتصادية وفي مقدمها مشكلة الغاز. ومع التردد الأميركي على مستوى اتخاذ القرار، واحتمالات الاتفاق النووي مع إيران، تصبح قيادة روسيا الحرب واحدة من المشكلات التي أصبحت فجأة في صلب الاهتمام اللبناني، لأن تداعياتها أشمل من وصول نازحين إلى لبنان، كما حصل مع النازحين السوريين، أو تعذر إمدادات القمح، وتدخل روسيا في الشؤون اللبنانية، بل يتعلق بتعاظم انحسار الدور الغربي. فبيروت على موعد مع استحقاقات نيابية ورئاسية وعلى موعد مع تحديات اقتصادية ومالية، وأي تعثر غربي كما يحصل على مستوى أوكرانيا، يعني بالنسبة إلى الفريق الذي يناهض محور إيران، خطوة إضافية إلى الوراء، لا سيما أن الخشية من مقايضات تتعلق بالاتفاق النووي وبحدود يمكن أن ترتسم مع حرب بوتين، يجعل من حدث أوكرانيا حدثاً لبنانياً، أكبر من النقاش«الثقافي» الذي يدور بين اختصاصيين أوروبيين حول الديموقراطية والديكتاتورية ومفاهيم روسيا القديمة وأحلامها