زيزي اسطفان – نداء الوطن
في أوائل الثمانينيات أطلق وسيم طبارة، سيد الشانسونييه يومها، مسرحية «اضحكوا قبل ما يغلى الضحك» واليوم وبعد نحو ثلاثين سنة يتهافت اللبنانيون على تطبيق النصيحة لكن ليس على الضحك، الذي صار مجانياً على منصاتهم، بل على الدولار الجمركي الذي يحوم كالغراب فوق يومياتهم. «اشتروا قبل ما يغلى الدولار الجمركي» هي الحكمة التي أطلقها إقرار الموازنة من قبل الحكومة اللبنانية وأعلنت من خلالها صفارة الانطلاق لسباق محموم بين المواطنين المفلسين والدولار الجمركي.
لم يتوقف اللبنانيون طويلاً عند الأسلوب الذي أقرّت به الموازنة ولا عند الجدل أو التشكيك اللذين تليا إقرارها، بل إن أبرز ما فهموه منها كان قرار رفع الدولار الجمركي على الكماليات الذي شغّل على الفور الآلات الحاسبة في أذهانهم لاحتساب الارتفاع المرتقب لأسعار السلع وانتابتهم إثر ذلك حالة من الهلع دفعت بمن لا يزال يملك بعض الـ»فريش» إلى التهافت بشكل لم يشهده لبنان منذ بدء الأزمة على الكماليات المهدّدة بارتفاع جنوني في أسعارها. ولكن هل باتت السيارة والبراد والغسّالة وجهاز الكمبيوتر من الكماليات في لبنان؟
ضحايا الدولار الجمركي والمستفيدون
أولى ضحايا رفع الدولار الجمركي قطاع السيارات المستعملة الذي يتوقع له أن ينكمش بشكل كارثيّ مع الارتفاع الكبير في جمرك السيارات المستوردة، ولكن هل تكون صحوة قبل السبات العميق؟ وهل استفاق الناس على ضرورة أن « يظمطوا» بسيارة قبل الغلاء؟ رئيس نقابة مستوردي السيارات المستعملة في لبنان إيلي قزي يقر بأن هناك حركة، وليس تهافتاً، بدأت مع ارتفاع سعر البنزين في اتجاه شراء السيارات الصغيرة لا سيما من قبل فئة الشباب وقد ازداد استيرادها بشكل واضح فيما خفّ كثيراً استيراد أو بيع السيارات الكبيرة التي بدأ الناس يسعون للتخلص منها واستبدالها بأصغر. ويورد قزي بعض الأرقام شارحاً أنه في العام 2018 كان عدد السيارات المستوردة 44000 سيارة ليصبح 27000 في العام 2019 ويهبط بشكل دراماتيكي في العام 2020 إلى 4900 ويرتفع من جديد في العام 2021 إلى 15000 سيارة منها 85% سيارات صغيرة الحجم.. وهذا يفسر انتعاش شغل أصحاب المعارض في السنة الماضية إلى حد ما وانتعاش حركة التصدير إلى البلدان المجاورة. لكن مع عدم إمكانية التقسيط في المصارف وحجز أموال المودعين اقتصر بيع السيارات على الفئة الصغيرة التي لا تؤمّن ربحاً كبيراً وصار همّ الناس اليوم تأمين صيانة السيارة التي يملكونها لا شراء واحدة جديدة. والجدير ذكره أن جمرك السيارة المستعملة في لبنان أكثر من الجديدة وزيادة الدولار الجمركي يعني إفلاس وإقفال وهجرة لقطاع بكامله يعتبر ثاني مصدر للإيرادات بعد النفط للخزينة اللبنانية.
في مقابل اقتصار البيع على السيارات الصغيرة، ثمة تهافت حقيقي من قبل المواطنين، حسبما يشرح قزي على تسجيل سياراتهم أو تصحيح أوضاعها غير القانونية وذلك نظراً لثبات رسم التسجيل الذي بات بمتناول الجميع بعد أن كان سابقاً يصعب على المواطن المتوسط إيفاؤه. و ينسحب التهافت أيضاً على نقل الملكية بعد أن كان بيع السيارات يتم بواسطة وكالة تجنباً لدفع رسوم التسجيل مرة جديدة عند نقل الاسم. وهذا إن دلّ على شيء فعلى أن قيمة الدولار المنخفض يمكن أن تساهم في إدخال إيرادات إلى الخزينة بعد دفع المواطنين جميعاً الرسوم المتوجبة عليهم. وحين نسأل قزي إذا كان بعض أصحاب محلات قطع السيارات أو أصحاب السيارات قد استعدوا للمرحلة المقبلة وخزّنوا قطع الغيار الضرورية يجيب بأن القطاعات المتعلقة بالسيارات مرتبطة ببعضها البعض فمتى انتعش سوق استيراد السيارات المستعملة ينشط معها سوق بيع القطع المستعملة لكن حالياً الكل في أزمة ولا تخزين لهذه القطع من قبل التجار المحجوزة أموالهم في المصارف ولا من قبل الناس الذين باتوا يؤجلون تصليح سياراتهم بسبب غلاء أسعار قطعها.
هجمة مفاجئة
في الجهة المقابلة، لم يصدق المسؤولون عن قسم الأدوات الكهربائية والإلكترونيات في شركة «فتّال» ما يحدث وما السرّ وراء هذه الهجمة المفاجئة على شراء القطع الكهربائية المختلفة. فجأة ومن دون مقدمات ازداد بيع ماكنات العصير والكبة وأدوات إزالة الشعر وماكنات الحلاقة وغيرها بدءاً من يومي الخميس والجمعة. لا مناسبة قريبة تبرر هذه الهجمة وليس عيد العشاق بالطبع ما دفع بالناس إلى شرائها كما أن عيد الأمهات لا يزال بعيداً. لم يفهم المسؤولون عن البيع بداية هذا الجنون ليتبيّن فيما بعد أن الزبائن أرادوا استغلال السعر الحالي ليضمنوا حصولهم على أدوات يحتاجونها ربّما لن تعود متوافرة قريباً. بعضهم من المقبلين على الزواج الذين أرادوا إتمام تجهيز بيوتهم، وكثير منهم ممن يخشون عدم استطاعتهم لاحقاً استبدال أدواتهم القديمة المتعبة بأخرى جديدة. حتى الطناجر والمقالي وأدوات المطبخ ازدادت مبيعاتها فهي كما الأدوات الكهربائية لا تزال تحافظ على السعر نفسه بالدولار ومع الانخفاض النسبي لدولار السوق استفاد بعيدو النظر من الفرصة وكان الخيار: إمّا شراء ماكنة الكبة اليوم أو العودة الى الجرن و المدقّة غداً….
حين سألنا جانيت إذا ما استغلّت الفرصة لاستبدال «الغاز» المهترئ في مطبخها قبل الغلاء المنتظر أجابت « الجمل بقرش… وما في قرش». فالقدرة الشرائية عند غالبية المواطنين تكاد تلامس الصفر. وهو الأمر الذي لاحظه أديب أحد أصحاب محلات بيع الأدوات المنزلية والكهربائية حيث قال: كثيرون يأتون للسؤال والاستفسار عن الأسعار لكن قلة من يشترون وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاث فئات بحسب قوله: المرتاحون مادياً ويسعون إلى تهريب أموالهم عبر تجديد محتويات منزلهم وهؤلاء رأيناهم كثيراً في بداية الأزمة، و الوافدون من الخارج ويودّون الاستفادة من دولاراتهم لتحسين وضع أهلهم أو تجهيز منازلهم بأحدث القطع بأسعار في متناولهم، والمقبلون على الزواج وهم قلة. هؤلاء مضطرون لاستباق الدولار الجمركي لكن معظم القطع الكهربائية الكبيرة تفوق بأسعارها قدرتهم ويحتاجون إلى راتب سنة لشراء برّاد حديث مثلاً يتراوح سعره بين 18 و30 مليون ليرة. لقد ازداد بيع القطع الصغيرة المحدودة السعر يؤكد صاحب المحل أمّا القطع الكبيرة فلم تشهد زيادة تذكر في البيع رغم تحرك السوق بشكل ملحوظ.
هذا الرأي يخالفه «وسام» الذي أمّن الغسّالة قبل العروس. فهذه الأخيرة «مقدور عليها» في أي وقت ولن يغلى مهرها كثيراً أما الغسّالة فأمرها أشد إلحاحاً…
التجميل وأطعمة الكلاب
إذا كانت الأدوات الكهربائية تعتبر من الكماليات في نظر الحكومة الكريمة فالشعب وضع لائحة بأولوياته وأساسياته. ف»ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» بل أيضاً بالمشروبات الروحية والعطور وتحيا النساء بإبر البوتوكس والفيلر ومستحضرات التجميل. تقول دولي وهي المسؤولة عن البيع في قسم مستحضرات التجميل في أحد المولات الكبرى: «ظننّا في البدء أن السان فالنتان هو الذي أنعش حركة بيع مستحضرات التجميل على أنواعها وكذلك العطور النسائية والرجالية لكن العيد مرّ واستمرّت الفورة. لا يمكن القول إنها فورة جنونية كما قد يظن البعض، فنحن اليوم وصلنا إلى مستوى البيع المقبول الذي عرفناه في السابق لكننا لم نتجاوزه، فأسعار مستحضرات التجميل والعطور غالية نسبياً وكلها تسعّر وفق دولار السوق لذا يمكن للزبائن شراء عبوة إضافية من العطر المفضل أو كريم النهار لكن لا يمكن أن ينفقوا الملايين ليخزّنوا هذه الأصناف». لكن ثمة ظاهرة لافتة تحدثنا عنها إحدى الصيدلانيات وهي ارتفاع نسبة شراء مستحضرات التجميل التي تكاد تنتهي مدة صلاحيتها بعد تخفيض ملحوظ في أسعارها.
«بولا» التي لا تخرج من بيتها من دون لمسة ماكياج سارعت إلى شراء عبوات من الماسكارا والـ»فون دو تان» ولكنها لا ترى ذلك من باب التخزين او استباق الغلاء بل من قبيل التحسب لانقطاع هذه المواد الحيوية من السوق وعدم استيرادها لاحقاً… فهي تفضل شراء مستحضرغالٍ والتقتير في استعماله على الرضوخ لمستحضرات مجهولة المصدر والهوية.
سألنا د. ألين مشهّم الاختصاصية في الطب التجددي ومكافحة الشيخوخة إذا كانت النساء قد أصبن بالهلع وتهافتن على القيام بإجراءات تجميلية قبل ارتفاع تكلفتها وغلاء أسعار موادها فضحكت مجيبة أنه للأسف لا يمكن إجراء هذه الحقن إلا في موعدها ولن يفيد استباق الغلاء. وبأي حال فالأسعار لن تختلف كثيراً لأن مواد الحقن التي يستخدمها أطباء التجميل يشترونها أصلاً بالدولار وكثير منهم يشترونها لحسابهم الخاص من الخارج و ليس من مستوردين محليين وارتفاع الدولار الجمركي لن يؤثر بشكل كبير في أسعارها وقد يقوم الطبيب باقتطاع جزء من ربحه للحفاظ على زبائنه. فلتطمئن النساء إذاً أن التجميل سيبقى في متناول اليد (والوجه) رغم أنف الدولار الجمركي.
وتستمرّ جولة البحث عما تهافت اللبنانيون إلى تخزينه قبل الغلاء المرتقب؟ هل خزّنوا الأدوية وعلى الأخص تلك التي تباع على «الكاونتر» دون وصفة طبية؟ تقول باسكال وهي صاحبة صيدلية في منطقة المتن أن التخزين كان يتم قبل رفع الدعم عن الأدوية أما اليوم فالناس بالكاد تشتري حاجتها من الأدوية الضرورية أمّا التي تباع بلا وصفة فقد تراجع بيعها نظراً لارتفاع أسعارها.
البن، المشروبات الروحية وحتى أطعمة القطط والكلاب والعصافير هي من أكثر ما أصرّ المواطنون على التزوّد بكميّات كافية منه تحسباً لغلاء أسعارها. بالنسبة إلى نديم وهو تاجر جملة متخصص بالمشروبات الروحية فإن الإقبال على شراء هذه المشروبات ارتفع قليلاً ولكن الزيادة لم تبلغ النسبة التي وصلت إليها سابقاً مع بداية ارتفاع الأسعار حين عمد وقتها الناس إلى التخزين بكميات كبيرة. فاليوم قدرة الناس الشرائية قد تراجعت وما بات واضحاً هو انتقال المستهلكين نحو المشروبات الأدنى جودة التي تختلف بأسمائها وماركاتها عن تلك التي اعتادوها في أيام العز وهي صناعة محلية او إنتاج بعض البلدان الفقيرة…» ويا متلنا تعا لعنا».
أخيراً هنيئاً لكلاب لبنان وقططه لأنها لن تجوع في زمن الغلاء المقبل…