الوضع في لبنان مقلق واللبناني يتعذب معيشيا ونفسيا والرؤية ضبابية حتى بعد العودة الى اجتماعات الحكومة.نعاني من مشاكل كثيرة تؤثر سلبا على معيشتنا وعلى قدرتنا على تلبية أبسط الحاجات. لم يعد أي منا يفكر بالعودة الى طريقة حياة ما قبل تشرين الأول 2019 لأنها كانت فعلا مدعومة ماليا ولا قدرة لنا كمجتمع على مواصلة النزف. الاضرابات لا تجدي لأن مشاكلنا ليست صراعا بين دولة قادرة وشعب محتاج، بل بين دولة عاجزة مهترئة وشعب يعاني. تكمن الصعوبة في أننا غير قادرين ضمن الوضع السياسي الحالي حتى مع انخفاض الدولار على تحسين مستوى المعيشة، والأمل لنا بانتخابات نيابية ورئاسية تنتج قدرات عصرية واداء يختلف 180 درجة عما هو عليه اليوم.
أملنا في اتفاق مع صندوق النقد الدولي يساهم في تحقيق الاصلاحات الكبيرة المطلوبة شعبيا والتي ليس بقدرتنا كمواطنين أن نفرضها على مؤسسات القطاع العام. المؤسسات جميعها تعاني وكيف لدولة أن تحل مشاكلها الجدية اذا كانت حكومتها لم تجتمع منذ تشرين الماضي. الاتفاق مع صندوق النقد يسمح بالاقتراض منه، وأهم يسمح بالحصول على أموال أخرى عربية ودولية تنتظر صندوق النقد لتغادر مصادرها. هذه الأموال الأخرى يمكن أن تكون قروضا أو هبات لكننا بحاجة ماسة اليها لننتقل من وضعنا الى ظروف أفضل.
المشاكل في لبنان متعددة لكن قسم منها يمكن حله بسهولة عندما تستتب الأوضاع السياسية، وقسم آخر يؤثر على المجتمع على المدى الطويل ولا يمكن اصلاحه أو تغييره بسهولة. توقيع الاتفاق مع صندوق النقد يتطلب تحضيرات ايضافية ولا يمكن انجازه قبل أن يتضح مصير الموازنة بل تعلن أرقامها الأولية التي ستقيم بدقة من قبل المسؤولين وخاصة الرأي العام. سننظر جميعنا الى تفاصيل الانفاق وحجم القطاع العام في أعداده والمنافع وماذا تعني كلها سياسيا واقتصاديا. سننظر الى أحجام الانفاق والتبريرات المعلنة بحيث لا نسيء الى قطاعات عديدة تم حرمانها في السابق. سننظر الى الايرادات المتوقعة ومن أين ستأتي أي من أي نوع ضرائب وعلى من تفرض. هنالك ضرورة للبدء في تحديد العجز كي لا يتفاقم نسبة للناتج المحلي الاجمالي. في آخر احصائيات يمكن الوثوق بها، وصل عجز الموازنة الى 11% من الناتج ومن الممكن أن يرتفع شرط تبريره اقتصاديا ومعيشيا ومؤسساتيا وليس ماليا فقط.
وضع الليرة مقلق ويؤثر سلبا على حياتنا لكن يمكن لليرة أن تعالج عندما يتفق لبنان مع صندوق النقد. محاولات مصرف لبنان لدعم سعر صرف الليرة لا يمكن أن تنجح لأن مشاكل لبنان تتعدى للأسف الموضوع النقدي لتصل الى السياسي والمالي والمؤسساتي والقانوني وغيرها والتي تؤثر جميعها سلبا على سعر الصرف. مصرف لبنان يعالج النتيجة أو ظواهر المرض ولكن ليس باستطاعته معالجة المرض نفسه الذي يتطلب خطوات كبيرة فاعلة في ميادين أخرى أهمها المالي عبر الموازنة وحجم القطاع العام الذي يجب أن يتدنى. تحسين العجز المالي والقيام بالاصلاحات الدنيا المطلوبة في كل القطاعات أهمها الكهرباء والمياه والاتصالات والنقل والعمل وغيرها كلها مهمة ولا بد من البدء من مكان ما.
عندما تتحسن سلامة الليرة ستتحسن معها الأجور المقيمة بها ويرتاح اللبناني تدريجيا. تتحسن أوضاع الفقراء والمناطق تدريجيا علما أن الوقت يبقى العامل الأهم. عندها تتحسن أيضا أوضاع الضمانات الاجتماعية والصحية والغذائية وننتقل معها الى أوضاع مريحة لن تصل حتما الى ما قبل تشرين 2019، لكنها ستكون أفضل بكثير من اليوم. سيصبح بإمكان القطاع الخاص أن ينتج ويسوق في الداخل، لكن الأسواق الخارجية بحاجة الى تطوير وتوسيع ولا من يقوم بها اليوم. الأسواق الخليجية مهمة جدا لنا، لكن يجب أن نضيف اليها أسواقا أخرى في شمال أفريقيا وضمن أفريقيا نفسها حيث تتواجد جاليات لبنانية كبيرة عديدة وقوية. من الضروري حتى في ظروفنا الحالية التحضير لفتح هذه الأسواق لأنها تأخذ الوقت الطويل كي تنجح.
مع التوقيع مع صندوق النقد على اتفاقية اصلاحية شاملة ووصول بعض الدولارات سيتحسن سعر صرف الليرة أكثر بكثير بالتزامن مع بدء الاصلاحات. يبدأ لبنان بالتعافي البطيء وربما الموجع لأن العديد من التعريفات سيرتفع كالكهرباء والاتصالات والمياه اذ لا يمكن الاستمرار بالأرقام الحالية المتدنية جدا نسبة للتكلفة. اللبناني سيتوجع لكن الأوضاع العامة ستكون أفضل وبالتالي سيتحسن المستوى المعيشي تدريجيا ليس فقط من ناحية السعر وانما من ناحية توافر الخدمات ونوعيتها. ماذا يفيدنا مثلا أن تكون تعريفات الكهرباء منخفضة ولا كهرباء، بل نعتمد على المولدات الخاصة المكلفة والمرهقة ماليا. أفضل أن تكون لنا كهرباء عامة مع رفع التعريفات الى حدود مدروسة ونرتاح من المولدات.
ما هي المواضيع التي لا تحل الا على المدى البعيد لأن تأثيراتها عميقة وتتخطى الاقتصاد لتصل الى التأثيرات النفسية والعقلية وغيرها؟
أولا: تتأثر اليوم انتاجية اللبناني الى حدود كبيرة وهي من أصعب الأمور التي يجب رفعها. مشكلة الانتاجية انها مرتبطة بالتعليم والتربية والغذاء وكلها أمور كبيرة لا تحل بسرعة. في الواقع اليوم يتدنى مستوى الخدمات في القطاعين العام والخاص ليس فقط لأن الأجور غير كافية بل لأن الانتظام والرغبة في الاداء تغيرت كثيرا سلبا. عندما تسوء أي خدمات تشير التجارب الى صعوبة العودة الى المستويات السابقة بسرعة.
ثانيا: الرغبة في العمل والعودة الى احترام الأنظمة بدأ من أنظمة السير الى قوانين الضرائب والانفاق وحتى سلامة الغذاء والعلاقات بين المواطنين وجميع السلطات. هذا النوع من الخلل الذي يزداد كل يوم لا يعود بسهولة الى الوضع الطبيعي حتى مع فرض قوة وهيبة الدولة.
ثالثا: من الضروري أن يقوم اللبناني تدريجيا بتصحيح علاقاته داخل البلد أي بين مختلف شرائح المجتمع لأن المصير مشترك ويجب ترك الكره والعنف نهائيا. يجب تصحيح الخطاب مع دول الجوار وخاصة مع دول الخليج وهذا يتطلب الوقت لأن صدقيتنا أصيبت ولا بد من معالجتها لتعود أفضل مما كانت. حتماً يجب تصحيح كل خلل مع الدول الغربية والمؤسسات الدولية حيث فقدنا قسما كبيرا من رصيدنا كما دلت عليه زيارات الرئيس ماكرون والأمين العام للأمم المتحدة.
يجب معالجة كل التصرفات السلبية التي دخلت في جسمنا وعقلنا في السنوات القليلة الماضية. تصحيح الأوضاع لا يتوقف فقط على حسن اداء الحكومات والنواب والقطاع العام، بل أيضا على تعزيز الثقة وزيادة الأمل بالمستقبل.
المصدر: اللواء