كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
إذا ما قدّر لصناديق الاقتراع أن تُفتح أمام الناخبين اللبنانيين وفق المواعيد الواردة في مرسوم دعوة الهيئات الناخبة (15 أيار للمقيمين)، فستكون القوى السياسية، على اختلاف توجهاتها، أمام اختبار صعب، وقد يكون الأقسى والأكثر ايلاماً.
تواجه هذه المجموعات تحدياً مصيرياً من شأنه أن يقلب المشهد رأساً على عقب، اذا ما نجحت الضغوط الدولية في تثبيت المواعيد الواردة في المرسوم والذي ألحِق بتوقيعيّ رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ما يجعله نافذاً، بانتظار معالجة اشكاليتيّ تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات ورصد الاعتمادات المالية اللازمة، واللتين تحتاجان إلى قرارين يصدران عن مجلس الوزراء.
في الواقع، تنطلق هذه القوى في حساباتها الانتخابية، من ثابتة تؤرق أذهان قيادات هذه الاحزاب والتيارات، وهي أنّ جميعها تعاني من تراجع في حضورها الشعبي، ولو بشكل متفاوت، وذلك بعدما ساد النَفَس المعارض على مزاج الرأي العام نتيجة “المصائب” التي وقعت فوق رؤوس اللبنانيين دفعة واحدة: تبخّر الودائع، العتمة، البطالة، الهجرة، انعدام الاستقرار الاجتماعي والصحي، والشعور بالإحباط ازاء المستقبل… وكلها “ويلات” ما كانت لتحلّ لولا الإدارة السيئة للمنظومة الحاكمة والتي صار عمرها عقوداً من الزمن، بتوقيع الحكومات المتعاقبة التي شاركت فيها كل القوى السياسية من دون استثناء. ومع ذلك، فإنّ المسؤولية تتوزّع على هذه القوى بنسب متفاوتة وفقاً لتورط كل منها بالسياسات المالية والاقتصادية والتنفيعات التحاصصية… وها هي اليوم تستعد لتدفع الثمن من جيب حضورها الشعبي.
فعلياً، إنّ الانهيار الحاصل ليس ابن ساعته، ولا هو وليد قرارات اتخذتها حكومة حسان دياب ولا حكومة سعد الحريري الأخيرة التي انفجر بوجهها الشارع، وإنما حصيلة تراكمات عمرها عقود ارتكبتها القوى السياسية، يمكن توثيقها بدءاً من العام 2005 الذي شكّل مرحلة مفصلية في تاريخ السياسة اللبنانية، مع خروج الجيش السوري من لبنان الذي حُمِّلت وصايته وزر فشل السلطة اللبنانية، ولو أنّ “الحريرية الاقتصادية” هي حجر أساس السياسات المالية. في تلك اللحظة، فوّت اللبنانيون على أنفسهم فرصة انتاج تسوية جديّة تقوم على أساس رؤية واضحة. واذ بالتحالف الرباعي يحلّ مطرح الطاولة المستديرة، ومنطق الحصص يسود مكان الخطة الاصلاحية.
المحطة الثانية تكرست بعد “حرب تموز” التي كان تفاهم مار مخايل أبرز تجلياتها، ووقوع الانقسام الداخلي على خلفية اصطفافيّ 8 و14 آذار حين قرر اللبنانيون تسلّق اللعبة الدولية، بانقساماتها القاتلة والتي انتهت إلى “اتفاق الدوحة” الذي عبّر في مكان ما في توازناته عن نتائج حرب تموز. على طاولة “الدوحة”، صار “التيار الوطني الحر” شريكاً أساسياً بعدما كان على ضفاف المنظومة الحاكمة.
هكذا، انطلقت مرحلة “السين سين” بلا أي رؤية واضحة فكانت نتائج انتخابات 2009 النيابية ورئاسة ميشال سليمان أبرز تجليات هذه الضبابية في المسار، إلى حين انفجار الوضع في سوريا الذي تزامن مع بدء الانهيار الاقتصادي، وتحديداً في العام 2011، حين رصد انحسار الودائع وتحوّل ميزان المدفوعات باتجاه العجز، وعودة الاهتمام الدولي بلبنان من باب العمل على اعداد مؤتمرات دولية لمساعدته بشروط إصلاحية.
ولكن تلك الإنذارات لم تكن كافية لتدفع القوى السياسية إلى مراجعة أدائها، لا بل استمرت في سياسة استنزاف الخزينة العامة على قاعدة الاستدانة مقابل دعم الليرة، الى حين بلوغ الوضع المالي والنقدي الحضيض وذلك في العام 2016، حين أبلغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن عدم قدرته على تغطية السياسات المعتمدة من جانب الحكومات، واضطراره للجوء إلى الهندسات المالية لتأمين مخزون احتياطي يسهم في امداد “الهيكل” أربع سنوات اضافية، شرط الانطلاق في السياسة الاصلاحية الانقاذية.
على وقع هذه المؤشرات التحذيرية انطلق عهد الرئيس ميشال عون. وللمرة الرابعة على التوالي يتكرر ارتكاب الأخطاء ذاتها. اختارت المنظومة منطق التفاهمات التسووية التحاصصية ، وكل ذلك من دون خطة أو ضوابط أو شروط. اكتفى هؤلاء بلعبة صرف النفوذ بلا خطة دفاعية أو معالجة جذرية لأزمة الكهرباء ولا حتى سياسة مالية اصلاحية… إلى أن انفجر الوضع في العام 2019 وقد عبّرت عنه انتفاضة 17 تشرين الأول التي كانت بداياتها في قرارات تعليق القروض المصرفية والاسكانية وبدء تراجع سعر صرف الليرة، حتى انكشفت الأزمة الاقتصادية المالية دفعة واحدة بعد اقفال المصارف أبوابها وبدء عمليات تهريب الأموال إلى الخارج وتبخّر الودائع…
وبعد سنيتن على وقوع الكارثة، لا تزال سياسة التخبّط هي السائدة، فيما تكتفي الطبقة السياسية بأساليب الترقيع بدليل المليارات التي هدرت في سياسة الدعم بدلاً من توظيفها في مشاريع استثمارية، أبرزها قطاع الطاقة… وتغرق الطبقة في مستنقع حالة النكران التي تسيطر عليها متكلة على سياسة تقاذف الاتهامات التي تعتقد أنّها تنقذها من مسؤولية التسبّب بالانهيار… حتى وصل الأمر بـ”التيار الوطني الحر” الى اتهام شريكه الشيعي أي “حزب الله” في “هدم” الدولة التي يفترض أن بناءها هو العنوان الأساس لتفاهم مار مخايل.
في المقابل، تتعاطى الدول المعنية مع المنظومة السياسية على أنّها مصدر البلاء والانهيار وبالتالي لا قدرة لديها على القيام بسلّة الإصلاحات المطلوبة لانقاذ الوضع، من هنا التركيز على الانتخابات النيابية والرئاسية لقيام أطر بديلة قادرة على فرض نوع من التوازن أو تغيير الوجهة.
إلى الآن، تعاني أحزاب السلطة من تخبّط في صفوفها وتمثيلها الشعبي، لا سيما في صفوف المؤيدين اذا ما افترضنا أن النواة الصلبة لا تزال متماسكة. النفس الاعتراضي يغلب على ما عداه عند الناس. وقد تدفع حالة “القرف” إلى امتناع الكثيرين عن المشاركة في الاستحقاق النيابي. ومع ذلك يقول أحد الخبراء الانتخابيين إنّ التحالفات هي المعيار الأساس لهذا القانون، وهي التي تحدد طبيعة النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع. ومن هنا، فإنّ الخروج بتقديرات حاسمة منذ الآن ليس سليماً، خصوصاً وأنّ المجموعات المعارضة لم تتمكن حتى اللحظة من توحيد صفوفها.