كتبت الدكتورة حياة الحريري في ”دياليكتيك”
ثمة ترابط عضويّ بين الإعلام اللبناني في حقبة ما بعد الحرب الأهلية وتحديدا مع إقرار القانون ٩٤ وبين صيغة النظام اللبناني بشكله الحاليّ. هذا الارتباط اتخذ أشكالا عدة سنعرض تاريخه في مقال لاحق، إلا أنه وفي السنوات الأخيرة، تخلّى الإعلام بشكل فاضح عن الغاية التي وجد من أجله، وهي نقل الحقيقة والعمل لخدمة الصالح العام. حاد الإعلام عن دوره وحاد الإعلاميون عن دورهم ووقعوا في لعبة الأضواء والشهرة المتواطئة في أحيان كثيرة مع الطبقة السياسية بما يخدم صيرورة النظام الملتوي الذي يتحكّم بالناس، ووقعوا في فخّ الاستعراض الذي يضرب كل أصول المهنة حتى باتت الأغلبية تتسابق لإبراز الرأي الشخصي على حساب المهنية والمحتوى والضيوف.
إذا، يعاني الإعلام من مشكلتين محوريّتين. الأولى، هي الارتباط بأجندات سياسية معيّنة لأفراد أودول، أو برجال المال ومعظمهم من رجال السياسة أو شركاء لهم. هذه العلاقة تتجلّى بوضوح من خلال تخصيص القسم الأكبر من البرامج الحوارية لاستضافة السياسيين ورجال المال تحت ذريعة مساءلة هؤلاء بينما تغيب عن الشاشات مواضيع ملحة وأكثر أهمية ترتبط بحياة الناس مباشرة مثل المشاكل الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والصحية. وفي حال أعطي لهذه المواضيع مساحة على الإعلام و يغيب المحتوى كليّا مقابل حفلة من الصراخ وتبادل الاتهامات ما يرفع حتما من نسبة المشاهدة و”الرايتينغ” وحجم التغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي ويضيع بالتالي الهدف الأساسيّ وهو تصويب المشكلة وطرح الحلول ومتابعتها.أيضا، يتجّلى هذا الارتباط ليس فقط من خلال تغييب مواضيع وقضايا على حساب أخرى، بل أيضا في طريقة تغطية الأحداث. فالشواهد كثيرة حول استغلال وسائل الإعلام على اختلافها لأحداث معيّنة ولأجندة معيّنة عبر تغييب جوانب كثيرة من الحدث وأسبابه والتركيز على ما يخدم الأجندات السياسية. لم تساهم هذه الممارسة في تضليل الرأي العام فقط، بل تخطّى تأثير ذلك ليصل إلى التواطؤ عن قصد أو غير قصد في زيادة الشرخ واللعب على الوتر الطائفيّ والمذهبيّ. فكم من جدران نفسية وطائفية ومذهبية بنيت بين أبناء المناطق وربما الحيّ نفسه لمعلومة مغلوطة مضللة أو حتى في تسريب أو بثّ معلومات أو محتوى على شكل “سكوب” بينما تقتضي المسؤولية الإعلامية الإحجام عن ذلك لتأثيرها السلبيّ على المجتمع لا سيّما في الأوضاع الاستثنائية وما أكثرها.
تتعدّد أشكال الارتهان الإعلامي والسبب واحد ألا وهو مشكلة التمويل لا سيّما في ظلّ عدم توفّر شبكة الأمان التي يجب أن تؤمّن بالحدّ الأدنى للصحافيين والإعلاميين لعوامل عدة نتناولها في مقالات لاحقة. وتجدر الإشارة إلى أن لبنان لا يشكّل ظاهرة في ارتباط الإعلام بالسياسة والمال، بل إن هذه العلاقة موجودة حتى في البلدان الديموقراطية الغربية في دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. إلا أن إحدى الفوارق بين هذه الدول وبيننا هو في المحتوى الذي تقدّمه وسائل الإعلام الغربية التي تحافظ على الحدّ الأدنى من المهنية والحرفية في العمل الإعلامي، وهذه مسؤولية الصحافيّ بالدرجة الأولى. هنا، نصل إلى المشكلة الثانية التي يعاني منها الإعلام في لبنان، وهي الإعلامي أو الصحافي نفسه.
في السنوات القليلة الماضية، لا سيّما مع اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين ولاحقا انتشار فيروس كورونا وصولا إلى تفجير مرفأ بيروت وغيرها من المحطات، طغت شخصية الإعلامي على الحدث، وبات الإعلاميون يلعبون دور الواعظ للناس عبر مطوّلات في المقدّْمات في برامجهم الحوارية بلغة فوقية وبفائض من القوة غير المحقة والغرور بعيدة كلّ البعد عن أصول العمل الإعلاميّ. نعم، مهمّة الإعلامي تقتضي توعية المجتمع في مجالات عدة، ولكنّ ذلك يكون من خلال إعطاء المعلومة الصحيحة بجوانبها كاملة من دون تقديم شخصية المذيع أو المقدّم على حساب المحتوى. هذا الغرور الإعلامي تغذّيه عوامل عدة، منها الشهرة لا سيّما على وسائل التواصل الاجتماعي و”الرايتينغ” ونسبة الإعجاب أو الجماهيرية، حتى يخيّل للإعلاميين والصحافيين ربما أنهم هم الحدث في مقالاتهم وفي حواراتهم التي وكما أشرنا تنعكس من خلال طغيان “الأنا” في المحتوى. جولة سريعة على البرامج الحوارية على محطات التلفزة بشكل خاص تظهر النقطة التي يحاول هذا المقال الإضاءة عليها. فالإعلاميّ في لبنان بشكل عام طبعا يميل إلى الاستعراض أكثر من المحاورة في البرامج وخاصة السياسية وكأننا أمام مبارزة بين الضيف والمحاور حول من يعرف أكثر بحيث لا يلعب الصحافيّ دوره الطبيعي في الحوار، بل يقاطع، ويعطي رأيه ويناقش الضيف به. في حين أنّ مهمّة الإعلاميّ هي في استخراج المعلومة من الضيف حول موضوع معيّن من دون أن يكون شريكا أو مرتبطا بها. في النقاش حول طريقة الإعلاميين في الحوار، ثمة رأي يقول أن على الإعلاميّ أن يلعب دور محامي الشيطان أمام الضيف، وهذه النقطة صحيحة وطبيعية. إلا أنه ثمة خيط رفيع بين دور محامي الشيطان وبين استخدام الدور والمنصة لمناقشة الضيف بالرأي الخاص وبالاستعراض بلهجة لا تخلو من الفوقية.
الإعلام يخدم الطبقة السياسية في لبنان، وبات وسيلة لتبادل الرسائل في ما بين الزعماء والسياسيين وخاصة عبر المقدمات الإخبارية التي يشكّل وجودها أصل المشكلة في وجودها، فهي بدعة لبنانية لاقت رواجا شعبيا بدأت بها محطة محلية وتبعتها أخريات، وهي بالمناسبة ليس لها وجود في قاموس كلّ مدارس الإعلام ولا حتى في الأنظمة التي يسيطر فيها الحكّام على وسائل الإعلام.
إذا كان الإعلام صوت المواطن ووسيلة لنقل الواقع كما يدّعي القيّمون عليه، فالمساحة المعطاة لمن هم سبب أزماتنا تتخطى بكثير مصلحة الناس واحتياجاتهم. وإن وجدت برامج تتناول شؤون الناس الحياتية فيكون ذلك بسطحية وشعبوية خالية من الضوابط المهنية وخالية من المحتوى الهادف، وهي وليست بعيدة أيضا من الاستغلال السياسي وعدّة الدعاية للسياسيين ورؤوس الأموال.
لا يهدف هذا المقال إلى الإساءة بالمعنى الشخصي للإعلاميين، ولكن إلى محاولة الإضاءة على الواقع الإعلامي وفتح النقاش الجدّي حول قطاع الإعلام والدعوة في ظل غياب دور المجلس الوطني للإعلام ونقابة الصحافة لتشكيل نواة ضغط للتصويب ومحاولة التغيير بالحدّ الأدنى رأفة بطلاب الإعلام الذين يواجهون من الانفصام بين المواد الأكاديمية والواقع.