يعد تراكم الدين العام في لبنان نتيجة عقود من سوء الإدارة الاقتصادية، والعجز المستمر في الموازنة، وسياسات مالية غير مستدامة. إلى جانب الفساد المزمن، ساهمت هذه العوامل في خلق أزمة مالية خانقة هزت أركان الاقتصاد اللبناني وأدت إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي. في هذا المقال، سنلقي الضوء على كيفية تراكم الدين العام، واستخدام أموال المودعين في هذا السياق، وما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية.
أولاً: تراكم الدين العام
بدأ الدين العام في لبنان بالتضخم بشكل ملحوظ بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، حيث لجأت الحكومة إلى الاقتراض لتمويل إعادة الإعمار وتحقيق استقرار اجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب. إلا أن هذه القروض استخدمت أيضاً لتمويل العجز المزمن في الموازنة العامة، وهو عجز ناتج عن مزيج من عوامل متعددة تشمل سوء إدارة الموارد، والإنفاق الحكومي المفرط، والعجز المستمر في تحقيق إيرادات كافية لتغطية النفقات.
العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراكم الدين:
العجز المالي المزمن: منذ أوائل التسعينيات، عانت الحكومة من عجز سنوي مستمر، حيث كانت الإيرادات أقل بكثير من النفقات. هذا العجز المتزايد تم تمويله عبر الاقتراض الداخلي والخارجي، مما أدى إلى تزايد الدين العام بشكل مضطرد.
خسائر قطاع الكهرباء: يعد قطاع الكهرباء من أكثر القطاعات استنزافًا للمالية العامة، حيث تعرضت مؤسسة كهرباء لبنان لخسائر بلغت مليارات الدولارات. وكانت الحكومة تغطي هذه الخسائر من الخزينة العامة، ما ساهم في تفاقم العجز.
دعم العملة المحلية: للحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية، اضطر مصرف لبنان للتدخل بشكل مستمر في السوق النقدي، ما أدى إلى استنزاف احتياطاته من العملات الأجنبية.
نفقات القطاع العام: تضخم القطاع العام، بما في ذلك التوظيف غير المبرر، وزيادة الرواتب والمعاشات، شكل عبئًا إضافيًا على الموازنة العامة، وفاقم من الدين العام.
فوائد الدين: نتيجة الاقتراض المستمر، أصبحت فوائد الدين العام تشكل جزءًا كبيرًا من نفقات الحكومة، ما جعل من الصعب تقليص الدين أو حتى سداد الدين الأصلي.
ثانياً: استخدام أموال المودعين
مع تفاقم العجز المالي وتزايد الدين، بدأت الحكومة اللبنانية تعتمد بشكل متزايد على الاقتراض الداخلي عبر البنوك المحلية. وكانت هذه البنوك تقوم بتمويل الحكومة من خلال شراء سندات الخزينة بفوائد مرتفعة، مما أدى إلى دخول أموال المودعين في حلقة من الاستثمار غير المستدام.
كيفية استخدام أموال المودعين:
البنوك التجارية: جذبت البنوك اللبنانية ودائع من المودعين المحليين والأجانب بفوائد مرتفعة، وقامت بإقراض الحكومة عبر شراء سندات الخزينة أو إيداع الأموال في مصرف لبنان بفوائد مرتفعة. هذه السياسات كانت مربحة للبنوك لفترة، لكنها كانت تعتمد على قدرة الحكومة على سداد الفوائد.
الهندسات المالية: أطلق مصرف لبنان ما يعرف بالهندسات المالية، وهي سلسلة من العمليات المصرفية التي تهدف إلى جذب الدولارات للحفاظ على استقرار الليرة ودعم احتياطي العملة الأجنبية. إلا أن هذه العمليات أدت في النهاية إلى استنزاف الاحتياطي النقدي وزيادة التزامات مصرف لبنان تجاه البنوك.
الأزمة المصرفية:
عند تصاعد الأزمة الاقتصادية واندلاع الاحتجاجات في عام 2019، فقد المواطنون ثقتهم في النظام المصرفي اللبناني. وبحلول عام 2020، أصبح واضحًا أن مصرف لبنان والبنوك التجارية غير قادرة على إعادة الأموال للمودعين بالدولار. نتيجة لذلك، تم فرض قيود صارمة على السحوبات والتحويلات، وأصبحت ودائع المودعين محجوزة فعليًا.
ثالثاً: الأزمة المالية والانهيار
مع تراجع احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية وانهيار الثقة في النظام المالي، أعلنت الحكومة اللبنانية في مارس 2020 عجزها عن سداد سندات اليوروبوند، وهو أول تخلف عن السداد في تاريخ البلاد. هذا التخلف عن السداد أدى إلى شلل النظام المصرفي وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
تدهورت الليرة اللبنانية بشكل حاد، وأصبحت البنوك غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين. وبالتالي، فقد لبنان القدرة على السيطرة على أزمة ديونه، ما أدى إلى انهيار اقتصادي شامل.
الخلاصة:
أدت السياسات الاقتصادية غير المستدامة والاعتماد المفرط على الاستدانة إلى تراكم الدين العام في لبنان. وقد استُخدمت أموال المودعين بشكل غير مباشر لتمويل عجز الحكومة، مما ساهم في خلق أزمة ثقة في النظام المالي. مع انهيار النظام المصرفي وتخلف الحكومة عن سداد ديونها، دخل لبنان في واحدة من أسوأ أزماته الاقتصادية في تاريخه الحديث.
خاص مكاريو٢١ مارسيل راشد