امتحانان للسياسة التربوية في كسروان فهل من أجوبة؟

كتب غسان صليبي في النهار:

حدثان تربويان تعاقبا زمنياً في كسروان، بعد أقل من يومين على عيد المعلّم.

في الحدث الاول، “استدعت القاضية جويل أبو حيدر، مدير “المدرسة المركزية للرهبنة اللبنانية المارونية” في جونيه، لحضور جلسة استماع على خلفية ورقة تعليمية في المدرسة تظهر أنه يمكن أن تتكون العائلات من الوالدين من الجنس نفسه.”

واستندت القاضية في قرارها إلى أن ما ورد “يعتبر تشجيعاً على الانحراف الجنسي الذي يتنافى مع القيم الأخلاقية”، وأنه يندرج “ضمن اطار الترويج للشذوذ الجنسي السائد أخيراً والمخالف للقيم الاخلاقية والتربوية وأحكام الطبيعة بذاتها”، كما جاء في نص الاستدعاء.

في الحدث الثاني، قال ناشطون في منصات التواصل الاجتماعي إن “مدرسة لبنانية، عاقبت الراهبة الأخت مايا زيادة على ضوء دعوتها التلامذة في مدرسة الغبالة في كسروان، للصلاة لأهل الجنوب.”

وانتشر مقطع فيديو على نطاق واسع يظهر الأخت مايا زيادة تقول فيه: “في الجنوب هناك تلامذة من عمركم يقولون إنهم لا يمتلكون أحلاماً غير تحرير أرضهم. اليوم سنصلي للجنوب، لأطفال الجنوب، لأهالي الجنوب، لأمهات الجنوب، ولرجال المقاومة، لأنهم رجال من لبنان، ويتعبون لحماية هذا الوطن”. وتابعت: “نحن إذا لم نصلِّ لهم، ولم نحبهم بغضّ النظر عما نفكر به، سنكون عندها خونة بحق أرضنا ووطننا وكل كتاب نقرأ فيه”.

ولاحقاً، تحدث مغرد عن “أن أهالي الطلاب أعلنوا الإضراب العام في مدرسة الغبالة “بسبب الخطاب البعيد عن ثقافتنا والتي حاولت المدعوّة “الأخت مايا زيادة” التّسويق له داخل الحرم التربوي”. وقال: “قرّرت إدارة المدرسة منع الأخيرة من التعليم نهائياً ونقلها من مدرسة الغبالة إلى مكان آخر بعيد عن أطفالنا”.

يشكل الحدثان ظاهرة تربوية لافتة، في منطقة لطالما وُصفت بـ”التقوقع والانعزال”، فيما الحدثان يؤشران الى شيء من التعدد والتنوع في القيم والتوجهات السياسية في المنطقة المذكورة. على اهمية هذه الملاحظة، التي تستحق بحثاً مستقلاً حول مدلولاتها، مقارنة مع المناطق الأخرى الأكثر تجانساً في الظاهر، إلا أنّ ما يهمني أكثر في هذا النص هو البعد التربوي للحدثين، اللذين يشكلان معاً امتحانا للسياسة التربوية في المدارس الخاصة، ذات المرجعية الدينية تحديداً. فأي موقف تربوي يمكن إتخاذه في كلٍ من هاتين الحالتين؟ في غياب مرجعية او سياسة تربوية واحدة تستند إليها الإجابات الممكنة، سأكتفي بطرح بعض التساؤلات بهدف إثارة النقاش، شبه الميت، حول السياسة التربوية في لبنان.

في ما يخص الحدث الاول أتساءل:

– ما هو دور الأخلاق، الدينية والمجتمعية، في تحديد السياسة التربوية؟
– الى أي مدى يخضع إعطاء المعلومات العلمية حول ظاهرة معينة- انواع العائلات مثلاً بما فيها العائلة المثلية- الى الرقابة المجتمعية والدينية؟ وفي حال خضوع إعطاء المعلومات الى هذه الرقابة، من هي مرجعية هذه الرقابة في كل حالة، ومن يحددها، وهل يسري ذلك على المراحل التعليمية كافة؟
– هل صحيح أن إعطاء معلومات عن موضوع معيّن- وجود العائلة المثلية مثلاً كنوع من انواع العائلات- هو تشجيع “على الانحراف الجنسي” كما إفترضت المحكمة، ام أن السلوك، الجنسي تحديداً، يتأثر بعوامل أهم، ومن بينها التربية العائلية لزوجين أسوياء وعوامل بيولوجية مثبتة علمياً؟
– من هي الجهة المخوّلة الحكم في هذه المسائل: القضاء، وزارة التربية، إدارة المدرسة، او جهات أخرى؟
– ما هو دور الجهات الخارجية الداعمة مالياً وفنياً للمدارس في تحديد سياساتها التربوية، إذ يُحكى “أن المدارس الكاثوليكية اصطدمت في وقت سابق مع الفرنسيين الذين يدعمون تلك المدارس، في هذا الملف تحديداً، وسُجّلت صِدامات في السابق بين عدد من المدارس ولجان الأهل فيها، على خلفية ذلك المضمون التعليمي. ”
– من يحدد مستوى وحدود التلاقح الثقافي الحتمي في البرامج التربوية، لا سيما في بلاد مثل لبنان، لا تُنتج فيها المعرفة التي تُدرّس في المدارس؟

اما في ما يتعلق بالحدث الثاني فنتساءل:

– هل أن تأييد الراهبة- المواطنة لـ”رجال المقاومة” هو ما يستحق الادانة، كما تبيّن من ردة فعل البيئة الاجتماعية، ام أن خطأها يكمن في تخوينها للرأي المخالف ولمباركتها لأفعال الحرب، من موقعها كراهبة مسيحية؟
– من يحدد العلاقة في المدارس، بين السلوك الديني- دعوة الراهبة التلاميذ للصلاة مثلا- والسلوك السياسي- الصلاة للجنوب ولأهله ولرجال المقاومة؟
– هل يصبح موقف الراهبة مقبولا لو كان مضمونه السياسي متوافقا مع بيئة التلاميذ، وبالتالي هل المشكلة تكمن في مضمونه كما ظهر من مواقف الاهل، أم أن المشكلة الحقيقية هي في اقحام الراهبة للديني بالسياسي من جهة وللسياسي والديني بالتربوي من جهة ثانية؟

يمكن لأي عملية رصد تربوية جدية، أن تلاحظ ما يشبه حادثتي كسروان، في مناطق أخرى، وربما كانت هذه الحوادث هناك، أقل أو أكثر ظهوراً، وأقل أو أكثر تحدياً للبيئة الاجتماعية.

وتشكل هذه الحوادث امتحاناً قاسياً للسياسة التربوية في لبنان ولمدى قدرتها على التكيّف مع ظروف معقّدة او ربما على محاولة التأثير بها، لا سيما في ظل غياب الدولة شبه الكامل والحضور القوي في المقابل للقوى السياسية والدينية المهيمنة على المدارس في كافة المناطق.

لا شك أنه في حالتي التكيّف والتأثير، يلعب المعلّم دوراً مركزياً، هو الذي يمسك مفاتيح اللعبة على الأرض. من هذا المنظور، يمكن لنقابة المعلمين في المدارس الخاصة، دون غيرها في ظل الظروف المعقّدة، أن تقدم إجابات عملية على الأسئلة التي طرحت، هي المدعوة الى الاهتمام بالسياسة التربوية الى جانب رفعها للمطالب المعيشية.

للمفارقة، وعلى عكس الكلمة الموازية بالفرنسية enseignant، او بالإنكليزية teacher، تحتضن كلمة “معلّم” بالعربية كلمة “علم”، وهو المفترض تعليمه في المدارس والجامعات، بعيداً من التأثيرات المجتمعية والدينية والسياسية. وهذا العلم لا يقتصر على العلوم الطبيعية بل يشمل بالتأكيد العلوم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية.

Check Also

هوكستين يختتم جولته في لبنان بلقاء قائد الجيش العماد جوزيف عون

اختتم الموفد الأميركي آموس هوكستين جولته في لبنان بالاجتماع بقائد الجيش العماد جوزيف عون بعدما …