كتب أحمد الأيوبي في “نداء الوطن”:
لم يكن إخضاع وزير «حزب الله» علي حمية للتفتيش والمرور تحت آلة الكشف الأمنية في قصر الصنوبر خطأً بروتوكولياً أدّى إلى مغادرته وعدم حضوره العيد الوطني الفرنسي، بل جاء في سياق توتّر آخذٍ بالارتفاع بين الثنائي الشيعي وبين إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون على مستويات عالية ترجمتها مواقف السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو والردود من مواقع دينية وسياسية وصلت حدود الاصطدام، في ترجمة لما يمكن أن يصبح بداية الافتراق الفرنسي عن الشيعية السياسية بعد أن اصطدمت خُطط باريس بالفشل المتعاقب وانكشاف عجز «الثنائي» عن حسم الموقف وخسارة فرنسا الظهير المسيحي التاريخي.
لفهم هذه التطوّرات لا بُدّ من تلخيص المواقف السياسية المتطايرة بين فرنسا والثنائي الشيعي في الخطاب السياسي للطرفين، والذي بدأته السفيرة غريو في اليوم الوطني الفرنسي عندما شنّت هجوماً عنيفاً على الطبقة الحاكمة ووجّهت لها تقريعاً لاذعاً وتساءلت كيف كان الوضع في لبنان ليكون لولا التدخل الفرنسي مع الشركاء في المجالات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية وحتى في مجال الحرّيات، لتخلص إلى أنّ «لبنان ليس على ما يرام. يطيب للبعض أن يعتقد اليوم أنّه تمّ تجاوز الأزمة. غير أنّ الاستقرار الحالي استقرار خادع… والسبب هو الاقتصاد غير الرسمي الذي يتمدّد ويتعمّم من الترسيخ المتزايد لعمليّات التبييض وللجريمة المنظّمة التي تنتشر في كافة أنحاء المشرق، بدفع من سوريا التي أصبحت «دولة مخدّرات». ينبغي قول ذلك علانية ومحاربته… أمّا نموذجكم المالي والإقتصادي فقد بات مُنهَكاً».
المجلس الشيعي على خطّ السجال
شكّل موقف البرلمان الأوروبي من قضية اللاجئين السوريين في لبنان معبراً للهجوم على السياسة الفرنسية وهذا ما عبّر عنه نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب عندما هاجم «الموقف المخزي للبرلمان الأوروبي حول النازحين السوريين»، باعتباره يشكّل اعتداء على السيادة اللبنانية». أما المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان فاعتبر أنّ «الجريمة والنزوح والاستنزاف الهائل للأرضية الاقتصادية الاجتماعية للبنان، أمر لم يعد يحتمل».
إلا أنّ العيار الثقيل في الردّ على السفيرة غريو جاء من وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى الذي اعتبر أنّ السفيرة الفرنسية «تنكّرت لكل مبادئ الثورة الفرنسية، كما خالفت المعاهدات التي تنظّم العمل الديبلوماسي، فنصّبت نفسها مفوّضاً سامياً يُملي قراراتٍ وتوجيهاتٍ ويُصدِر أوامر عليا». وانضمّ عضو المجلس المركزي في «حزب الله» الشيخ نبيل قاووق إلى الحملة على فرنسا من خلال الردّ على التوصية الأوروبية حول اللاجئين في لبنان ما أعطى الاشتباك مزيداً من الحماوة لأنّه لم يقتصر على حركة أمل وحدها.
فرنسا تواجه الهزيمة أمام قطر
لا يمكن فصل الاشتباك بين الثنائي الشيعي وفرنسا عن التطوّرات الحاصلة إقليمياً في الملف الرئاسي. فقد ماتت المبادرة الفرنسية بسبب انحيازها المريب للثنائي الذي بات يتعامل مع إدارة ماكرون باستعلاء وكأنّها ملزمة بخدمة أهدافه السياسية أو أنّها تعمل لدى المحور الإيراني بالكامل، وساهمت الثورة المسيحية في وجه هذا الانحياز في تكبّد باريس خسارة مكشوفة في لبنان طالت مكانتها في المعادلة اللبنانية والإقليمية، ولعلّ هذا هو أحد أسباب التوتر في خطاب السفيرة غريو التي شكّل موقفها صدمة للثنائي الشيعي فكان الاشتباك.
لعلّ ما يزعج الإدارة الفرنسية الآن بعد فشلها في مبادرتها «الرئاسية الحوارية» هو التقدُّم القطري المدعوم بتفاهم سعودي- أميركي وبعلاقات الدوحة المتينة مع طهران، وهذا يُضعف فرص النائب الأسبق سليمان فرنجية ويقوّي فرص قائد الجيش العماد جوزاف عون.
وأمام الموقف الفرنسي العالي السقف لجأ الثنائي إلى مناكفة باريس من خلال المبالغة في التمسّك باتفاق الطائف ويأتي هذا السلوك في سياق «ليس حُبّاً بعلي بل كُرهاً بمعاوية»، فالطائف ليس مهضوماً من الشيعية السياسية، لكنّه يناقض مسارات السياسة الفرنسية التي رفعت شعار العقد الاجتماعي الجديد في لبنان وذهبت بعيداً في إثارة معادلات التغيير الدستورية والعرفية مثل المثالثة في مؤتمر «سان كلو» والتي كان لافتاً أن يبالغ الأمين العام لـ»حزب الله» في التبرّؤ منها في خطابه الأخير حول بداية حرب 2006.
مخاوف من الفوضى
العنصر المهم في المعادلة السياسية الراهنة هو كسر التوهين الحاصل للمسيحيين وإزالة ما جرت إشاعته من مقولات أنّهم مهزومون وليس أمامهم سوى الاستسلام وأنّ قدرة «حزب الله» على الحسم ليست كما كان يصوِّرها للعواصم الغربية وخاصة لباريس، كما أنّ منظومة المصالح التي يمكن أن تحصِّلها باريس من شراكتها مع العرب وخاصة المملكة العربية السعودية لا تُقارَن بمصالحها مع إيران.
يحمل الاصطدام «الشيعي – الفرنسي» مؤشرات توتّر إقليمية يُخشى أن تنعكس على لبنان لأنّها تعني المزيد من التأزّم في الملف الرئاسي والمزيد من التفاقم في الوضع الاقتصادي والاجتماعي وهذا يُنذر بفوضى داخلية كما هو حاصل في أكثر المناطق، أو بتنفيذ «حزب الله» تهديده بالسعي إلى تغيير المعادلات الداخلية من خلال الحرب مع العدو الإسرائيلي.
لطالما كان التحالف الفرنسي الشيعي خلافاً للطبيعة فهل «انكسر الدفّ وتفرّق العشّاق» لتعود فرنسا إلى دورها «الطبيعي» أم تتمكّن طهران من استعادة باريس إلى صفّ حلف الأقليات؟