لماذا قمّة الناتو هذا الأسبوع مصيريّة؟

كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:

قمّة حلف شمال الأطلسي (الناتو) المزمع عقدها الأسبوع المقبل في ليتوانيا، ستكون محطة انتقال فاصلة بين “النظرية” التي رافقت استراتيجيات المواجهة وسيناريواتها، وبين “واقع” حرب مع روسيا يهدّد بتوسّع المواجهة في عقر الدار الأوروبية.

الحرب في أوكرانيا فرضت تحدّيات عمليّة على دول حلف الأطلسي، وفرضت على مؤسسة “الناتو” أن تثبت فعاليتها كمنظمة، وأن تجيب عن تحدّيات جديدة ومخاطر حقيقية تمتد إلى دول البلطيق وبولندا وتشمل المفاعل النووية. اللافت وسط هذا التحوّل الجذري في معادلة الحرب الأوروبية، أنّ لا روسيا ولا دول الناتو تبدو في حال ذعر، رغم المعطيات النووية، وإنما هناك تحضير لإعادة اختراع النفس عمليّاً وليس نظرياً كما كان الحال.

الواقعية- السياسية أدّت بالأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ للتحدّث قبل أيام من انعقاد القمّة في 11 و12 تموز (يوليو) بلغة “الممكن”، مشيراً إلى أنّ السويد لن تتمكّن من الانضمام إلى الحلف أثناء انعقاد القمّة، لأنّ موافقة تركيا على طلب الانضمام غير متوافرة. وقال: “ما هو ممكن، وما نريد تحقيقه، هو قرار إيجابي في القمّة، بحيث توافق تركيا على التصديق، إنما لا يزال هناك عمل يتعيّن القيام به”.

ستولتنبرغ نبّه إلى أنّ أي تأخير في انضمام السويد إلى الناتو “سيحظى بترحيب حزب العمال الكردستاني والرئيس الروسي” فلاديمير بوتين. تركيا تطالب السويد بتسليم ما يقارب 120 عنصراً تابعاً لحزب العمال الكردستاني أو مؤيّدين له، مقيمين في السويد، وتتهم ستوكهولم بإيواء المتورطين في محاولة الإنقلاب عام 2016. المفاوضات مستمرة بين أنقرة وستوكهولم، وقد حرصت قيادة الناتو والإدارة الأميركية والقيادات الأوروبية على إعطاء المفاوضات مهلة، بدلاً من سلك طريق المواجهة مع تركيا والتهديد بمعاقبتها إذا عرقلت انضمام السويد.

فعين دول الناتو هي على العلاقة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أُعيد انتخابه بعد معركة ضارية، وسط وضوح رغبةٍ أميركية وأوروبية بعدم فوزه بالرئاسة. قيادات الناتو تخشى من تقلّب مزاج أردوغان، لاسيما أنّه غاضب من الاتحاد الأوروبي EU لعرقلته انضمام تركيا إليه. ما توحي به تصريحات الأمين العام للناتو، هو أنّ قيادات الحلف قرّرت أن لا داعي للمواجهة والجفاء مع تركيا لسببين أساسيين هما:

أولاً، إنّ عضوية السويد في حلف الناتو باتت واقعاً عملياً حتى في غياب العضوية الرسمية، لأنّ انتماء السويد إلى المظلّة العسكرية هو قضية أوروبية وليس مجرّد مسألة سويدية. مشاركة السويد في البرامج العسكرية والتكنولوجية لحلف الناتو باتت تشكّل عضوية الأمر الواقع، لأنّ المؤسسة الصناعية- العسكرية السويدية محورية لمضاعفة قوة الناتو كحلف عسكري. وبالتالي، إنّ مسألة عضوية السويد هي بمثابة امتحان لتركيا أكثر مما هي حاجة عملية للحلف. وقد قرّرت قيادات دول الناتو أنّ من الأفضل إعطاء مهلة زمنية لتركيا لفضّ مشاكلها مع السويد والعضوية، بدلاً من مضاعفة الجفاء الأوروبي مع تركيا وما قد يولّده من تداعيات وعواقب، الكل في غنى عنها الآن.

ثانياً، قيادات دول حلف الناتو ليست مرتاحة إلى العلاقة بين بوتين وأردوغان، والتي تمكّن روسيا من القفز على العقوبات الأميركية والأوروبية وتنقذ اقتصادها من الانهيار. ولكن، وفي الوقت ذاته، لا يرغب الناتو في صدّ الباب كلياً في وجه الدور الذي يريد الرئيس التركي أن يلعبه بين روسيا وأوكرانيا، إن كان في إطار الوساطة السياسية شبه المستحيلة، أو في إطار اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود والذي انتهى مفعوله.

الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي زار اسطنبول يوم الجمعة الماضية للمرّة الأولى منذ بدء الحرب الأوكرانية، للتركيز على اتفاق تصدير الحبوب، كما على ما تتمنّاه أوكرانيا من قمّة حلف الأطلسي في “فيلنيوس” العاصمة الليتوانية. زيلينسكي شنّ حملة ديبلوماسية مع عواصم أعضاء حلف الأطلسي، مشدّداً على ضرورة اتخاذ قياداتها خطوات “ملموسة” نحو عضوية كييف في الحلف أثناء قمّة الناتو المقبلة. قال إنّ أوكرانيا في حاجة إلى إشارة واضحة إلى أنّها ستنتمي إلى الحلف لاحقاً، وليس مجرّد القول إنّ الباب مفتوح أمامها.

الرئيس الروسي سيراقب من كثب ما سيصدر عن قمّة الناتو بالذات، لجهة خطوات تثبيت أوكرانيا رسمياً في فلك حلف شمال الأطلسي، والتي ستكون بمثابة شهادة على فشل الإنذار الذي أطلقه في 17كانون الاول (ديسمبر) 2021، محذّراً الناتو من الاقتراب من التفكير بعضوية أوكرانيا فيه ومن توسيع عضويته. فالصفعة الأولى أتت عبر عضوية فنلندا رسمياً في الناتو، وهي على الحدود مع روسيا. السويد باتت عضو الأمر الواقع في حلف الناتو، وأوكرانيا لن تصبح اليوم عضواً رسمياً، لكنها تنتمي فعلياً إلى حلف شمال الأطلسي. هكذا كانت نتيجة الإنذار المشؤوم الذي أدّى إلى الحرب الأوكرانية وإلى المواجهة المصيرية بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي.

وهذه هي بالذات نقطة الانعطاف للناتو- نقطة التحوّل من حرب باردة إلى حرب حقيقية مع روسيا. حرب تدور الآن في أوكرانيا، لكن دول البلطيق الثلاث، إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، تخشى ان تكون على رادار الحرب مع روسيا. ثم إنّ بولندا مرشحّة جدّياً لتكون ساحة حرب مع روسيا كما مع بيلاروسيا. وهناك إمكانية تورّط صربيا وكوسوفو في الحرب الساخنة.

تورّط دول حلف الناتو في الحرب المباشرة مع روسيا وارد إذا قرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخذ بنصيحة مؤسسته العسكرية الداعية إلى تغيير قواعد الحرب الأوكرانية، واعتماد استراتيجية السحق والتدمير التام للمدن، بدلاً مما تسمّيه بحرب القفازات البيضاء. عندئذٍ، الأرجح ألاّ تكتفي دول الناتو بالإمدادات العسكرية عبر بولندا أو بتوفير أوكرانيا بالذخائر العنقودية الأميركية.

فإذا كانت الدولة الأوكرانية مهدّدة وجودياً، لن تتمكن دول الناتو من تجنّب الحرب المباشرة مع روسيا. الواضح اليوم هو أنّ لا القيادة العسكرية الروسية مستعدة للتقهقر في أوكرانيا ومغادرتها، ولا قيادات الناتو جاهزة لفضّ يدها من الحرب الأوكرانية.

في القمم السابقة لحلف الناتو الذي يضمّ 31 دولة، كانت المواجهة مع روسيا نظرية قبل اندلاع الحرب الأوكرانية. أثناء هذه القمّة سيدقّق القادة في أوراق البحث في كيفية محاربة روسيا ومواجهتها فعلياً، ليس في الساحة الأوكرانية بمفردها، وإنما في دول تنتمي رسمياً إلى حلف الناتو، ما يعني، بموجب المادة الخامسة، أنّ جميع أعضاء الناتو ملزمون بالدفاع عنها مباشرة.

ستكون روسيا نجمة قمّة الناتو وليس الصين. إنما السؤال الأساسي ليس حصراً حول المواجهة مع روسيا، وإنما هو حول هوية حلف شمال الأطلسي ومساره ومصيره.

العلاقات بين الولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن وبين الدول الأوروبية ازدادت متانة وعمقاً، بل انّها تحوّلت جذرياً إلى حقبة جديدة من التعاون العسكري والاستراتيجي مع دول شمال الأطلسي.

فالحروب مفيدة للمجَمّع الصناعي العسكري Military industrial complex وللصناعات التكنولوجية، والحرب الأوكرانية أدّت إلى تكريس 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي GDP لدول الناتو للأهداف العسكرية، كما أنّها مفيدة في اختبار الأسلحة الجديدة وفي الاستراتيجية الدفاعية للدول لتطوير جيوشها.

أمام قمّة الناتو هذا الأسبوع التفكير بتجددية في مخلّفات الحرب الأوكرانية، والتي لا تقتصر على سباق التسلّح بحلّة جديدة، وإنما تشمل حقبة آتية من اللااستقرار. ماذا ستكون إجابات الناتو عن التحدّيات، وكيف ستصيغ مؤسسة الناتو مستقبلها؟ فالحرب الموسّعة ليست نظرية، بل انّها ممكنة، لأنّ لا حل سياسياً في الأفق مع روسيا لإنهاء الحرب الأوكرانية.

زجّ الرئيس الروسي في الزاوية لن يؤدّي به إلى التراجع، ففلاديمير بوتين لا يؤمن بالتراجع ولا يرغب به. ما قد يضطر إليه هو اتخاذ الخطوات العسكرية التي يصرّ عليها القادة العسكريون الروس- وهنا الخطورة. قادة الناتو يدركون أنّ هذا الخطر ليس مستبعداً، وأنّ عليهم أن يعدّوا الخطط العسكرية لأسوأ السيناريوات، بما فيها سيناريو الرعب المنبثق من محطة زاباروجيا النووية، والتي تتبادل كييف وموسكو الاتهامات بالتحضير لعمل “استفزازي” و”تخريبي” فيها، لخلق كارثة نووية من شأنها أن تغيّر مجرى الحرب الأوكرانية ومزاجها.

هناك، وللهلع، من يعتقد أنّ أقصر طريق لإنهاء الحرب الأوكرانية هو “حادثة” نووية تعيد خلط الأوراق، عنوانها مفاعل زاباروجيا- وهي أكبر محطة نووية في أوروبا تقع تحت سيطرة روسيا، بعد قيامها بضمّ الجزء الجنوبي الشرقي من أوكرانيا عام 2022. نائب مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف قال بصراحة، إنّ أي حرب يمكن إنهاؤها بسرعة إما بتوقيع معاهدة سلام أو باستخدام الأسلحة النووية، كما فعل الأميركيون في هيروشيما عام 1945.

لا مجال اليوم لإبرام معاهدة سلام بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا، بعدما زالت الثقة ودخل الطرفان في المواجهة عملياً، وليس نظرياً. عسكرة الديبلوماسية أخذت مكان الديبلوماسية السياسية، بلا عودة. وما سيقرّره حلف شمال الأطلسي في قمّته المقبلة ليس أقلّ من انعطافة تاريخية.

شاهد أيضاً

دول تتعهد باعتقال نتنياهو وغالانت.. وواشنطن تهدد الجنائية الدولية

تباينت ردود الفعل الدولية على قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء …