كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
تخطّت صفيحة البنزين المئتي ألف ليرة وتنذر، بعد، بالإرتفاع. هي نكبة حلّت باللبنانيين وأقعدتهم في بيوتهم عاجزين مرتبكين بعد عز السيارة الذي عرفوه في العقدين الأخيرين. هم اليوم ضائعون يفتشون عن بدائل ويتخبّطون في إيجادها. كيف يتنقلون؟ كيف يصلون الى أشغالهم ومدارسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم؟ المشاوير الطويلة تمّ إلغاؤها من قاموس حياتهم اليومية والكزدرة صارت “لوكس” لا يقدرون عليها، ولكن كيف يلبّون ضروريات الحياة؟
مرة جديدة يبتكر اللبناني اليتيم المتروك لقدره وسائل نقل بديلة ليكمل حياته كما ابتكر حلولاً موقتة من قبل صارت كلها ثابتة ودخلت صلب نمط عيشه. هل تذكرون “الأوتوستوب” وسيلة النقل تلك التي ازدهرت مطلع السبعينيات حين كانت الصبية (أو الشاب) تقف على الطريق وتشير بيدها لأي سيارة مارة، فيتوقف صاحبها بكل شهامة وحماسة ليقلّ الراكبة (أو الراكب) على طريقه الى حيث يتجه، وكان المشوار أحياناً يطول أكثر لينتهي نهاية سعيدة. حينها وفي عز الحرب الدائرة رحاها في لبنان كان الأمن الاجتماعي مستتباً ولم يكن أحد يخشى ركوب سيارة غريبة مع سائق مجهول. وانتهت الحرب وأتى بعدها زمن السلم الأهلي وإعادة الإعمار وفتح المناطق على بعضها واختفى “الأوتوستوب” مع زيادة الوجوه الغريبة.
اليوم عاد المواطنون يفتشون عن بدائل للاستخدام اليومي للسيارة وهم يدركون أن ليس بإمكانهم الاتكال على نقل مشترك أهملته الدولة ولم تعنَ يوماً بتأمينه للمواطن بشكل لائق. الحلول طبعاً، وككل مرة، أتت بمبادرات فردية، بعضها ترقيعي فيما الآخر يطمح للاستدامة.
الـ”كاربولينغ” أو تشارك السيارة يقدم نفسه اليوم كأحد الحلول العملية للتنقل بكلفة مقبولة. المبدأ سهل ومعتمد في كثير من الدول لدوافع بيئية قبل الاقتصادية، حيث يتشارك أكثر من شخص في “التوصيلة” بعد أن يطرح صاحب السيارة الصوت ويعلن وجهته، سائلاً من يرغب بمرافقته في مشواره على ان يتم تقاسم التكاليف. وكلما ازداد عدد ركاب السيارة خفت الكلفة على الجميع. هذه المبادرة التي عُرفت في لبنان في أزمات البنزين السابقة ثم أجهضت بسرعة، تعود اليوم من باب التكنولوجيا العريض وتتحول الى تطبيقات مختلفة تهدف كلها الى التشارك في السيارة.
تطبيقات
“خدني معك”، “عَ طريقك”، “وصّلني معك”، تطبيقات على الهواتف الذكية وصفحات على مواقع التواصل أو غروبات على “واتساب”، بدأت تلاقي إقبالاً كبيراً وعبرها يتداعى الناس الى مساعدة بعضهم البعض من خلال مشاركة رحلة واحدة. وكي تؤمن المصداقية فإن معظم هذه التطبيقات تضع شروطاً لعملية التشارك تطبق على السائق والراكب معاً، كإرسال صورة لصاحب السيارة عن هويته ورخصة القيادة الى المسؤول عن التطبيق او المجموعة ومشاركة أرقام الجوال الخاص بكل الأطراف قبل الرحلة، والالتزام بالوقت المعلن والمتفق عليه ووجهة الرحلة وبالطبع الالتزام بالآداب العامة واحترام الخصوصية، (وعدم التكلم بالسياسة في بعض المجموعات) إضافة الى نشر تعليقات عن انطباعات الطرفين عن الرحلة ليستفيد منها الجميع. وقد بدأ الكثيرون من طلاب الجامعات وأولياء التلاميذ وأساتذة المدارس يطبقون هذا الأسلوب، حتى إن إحدى المدارس في المتن شكلت جداول مدروسة ووزعتها على الطلاب والأهل والأساتذة ليتمكنوا من التنسيق في ما بينهم فسهلت عليها وعلى نفسها الكثير.
غسل وصمة النقل المشترك
على الرغم من أهميته، إلا أن الـ”كاربولينغ” لا يزال يعتمد على السيارة فيما المطلوب التفكير ببدائل تمكن المواطن من الاستغناء عنها كالنقل المشترك مثلاً. ولكنّ كثراً من “فقراء لبنان الجدد” لا يعرفون بوجود نقل عام في بلدهم، من هنا قامت منذ 2015 مبادرة تشاركية تطوعية عملت على إيجاد منصة للنقل المشترك في لبنان تحمل اسم Bus Map Project، عملت على جمع كل المعلومات المتعلقة بالنقل المشترك ووضع خرائط لخطوطه، بغية خلق الوعي لدى المواطنين بوجود نقل مشترك في لبنان معظم الناس يجهلون وجوده. ومن أجل تفعيل وحماية هذا القطاع تحولت المبادرة في ما بعد الى جمعية تحت اسم ” Riders’ rights” او حقوق الركاب، تشجع الناس على استخدام النقل المشترك وتدافع عن حقوق الركاب والسائقين وتعمل على تقديم رؤية شاملة عن هذا القطاع، لتأمين عدالة النقل للجميع في كل المناطق والظروف ولكل الفئات.
“وفّر عَ الخطّ”
شادي فرج وهو عضو مؤسس في جمعية حقوق الركاب يتحدث الى”نداء الوطن” عن أهمية هذه المبادرة ولا سيما اليوم في عز أزمة النقل والبنزين قائلاً:
النقل المشترك كان مخفياً لعدة أسباب وموسوماً بوصمة لا يتقبلها الكثير من اللبنانيين، مثل كونه مقتصراً على العمال الأجانب أو أن السائقين يشكلون مافيا زعران وأن الروائح في الباصات كريهة ومزعجة. أردنا كسر هذه الوصمة وإظهار الحقيقة المخبأة عبر نشر مقالات وشهادات لركاب، حول عدم صحة هذه الأمور وجمعنا معلومات حول خطوط النقل المشترك في كل لبنان ووضعنا لها خرائط مفصلة في كل المناطق، ليصبح بإمكان كل مواطن ان يعرف كيف يمكن له التنقل بواسطة الباص في بيروت ومدن ومناطق لبنان.
اليوم ازداد استخدام باصات النقل العام 100% وصرنا نتلقى مئات الاتصالات التي تسأل عن الخطوط والأسعار وتطلب معلومات، بعد أن كان القطاع معزولاً ومهملاً ومقتصراً على الفئات المهمشة فقط. ويضيف شادي فرج قائلاً: “إن النقل المشترك ليس حصراً بالدولة بل هو نظام يعتمد على وسائط عامة تستعمل بشكل جماعي بغض النظر عن ملكيتها. وفي لبنان هو نظام غير منظم تابع لشركات خاصة فيما الدولة وعبر مصلحة سكة الحديد والنقل المشترك لا تملك اليوم إلا 30 باصاً على تسعة خطوط في بيروت، ومحطتها قد توقفت عن العمل كما توقفت صيانتها.
حالياً تعمل الجمعية مع البلديات واتحادات البلديات لتنظيم خطوط تمر عبرها أو إيجاد وسائل لنقل الركاب ضمن كل بلدية، إضافة إلى العمل على سيارات الأجرة للوصول الى نظام نقل مترابط. والأزمة الحالية يمكن أن تكون فرصة لتوعية الناس على كل خيارات التنقل المتاحة أمامهم. ويقول فرج: “نقوم اليوم بتعديل المنصة ومحاولة وضع جداول زمنية واضحة لسير الباصات التي لاحظنا أنها باتت تمتلئ بعد أن كانت تسير شبه فارغة. وقد قمنا بحملة “وفّر عَ الخط ” لتشجيع المواطنين على استخدام النقل المشترك مع اعتماد بطاقة تخول صاحبها الحصول على حسومات من بعض الشركات”.
بدائل عملية و”وفّيرة”
هي فرصة لقلب الصفحة إذاً والبحث عن بدائل: بدائل لم تتبلور بعد بشكل واضح لكنها متاحة لمن يسعى إليها: التوك توك، الدراجة الهوائية، السكوتر الكهربائية وحتى تاكسي الدراجات النارية. ووفق ما عرفنا من وسام عراجي صاحب أكبر شركة توك توك في البقاع ووكيل بيع هذه الآليات في المنطقة، فإن الطلب على شرائها بات كبيراً جداً وثمة زبائن يأتون من الجنوب وبيروت، وحسب قوله قد نصل الى وقت يمتلك فيه كل بيت توك توكاً. أما بالنسبة الى استعمالها كتاكسي أو لنقل الطلاب فالأمر يواجه عدة صعوبات حالياً، يقول عراجي، فأصحاب التوك توك يعانون في توفير البنزين لهذه الآليات الصغيرة والمحطات لا تضعهم على جدول توزيعها للبنزين، لذا هم مضطرون لشراء بنزينهم من السوق السوداء وبذلك ترتفع كلفة التوك التوك الى حوالى 7000 ليرة للمشوار، فيما الركاب لم يتقبلوا بعد هذه التسعيرة. اما بالنسبة لنقل الطلاب فالأمر لا يخلو من المخاطر، يؤكد عراجي، إذ يمكن القيام بذلك على الطرقات الداخلية اما على الطرقات العامة فإن التوك توك لا تؤمن سلامة الطلاب وهو الأمر الذي لا يمكن لصاحب الـ”توك توك” ان يتحمل تلك المسؤولية، على الرغم ان البعض قد عمد الى تحويل آليته الى مركبة لنقل التلامذة على مسؤوليته الخاصة.
أما تاكسي الدراجات النارية فظاهرة مستجدة في بيروت وطرابلس حيث حولها اصحابها الى وسيلة لنقل الركاب عملية سريعة و”وفيرة” جداً. فكلفة المشوار لا تتعدى 3000 ليرة وهو مبلغ نسي اللبنانيون نكهته. ويفكر بعض اصحاب الدراجات حالياً بتزويدها بعدة للشتاء اي غطاء نايلون يقي راكبها المطر. وعلى الرغم ان الدراجة لا تتسع لأكثر من راكب لكنها قادرة على القيام بعشرات المشاوير في النهار، ما يؤمن لصاحبها مدخولاً لا بأس به و يؤمن للركاب وسيلة نقل بديلة عن السيارة، رغم انها لا تخلو من المخاطر مع وضع الطرقات الكارثي في لبنان ووضع السير العشوائي.
وتبقى السكوتر الكهربائية خياراً آخر بدأت بعض التطبيقات تقدمه مثل تطبيق loop الذي يوفر إيجار سكوتر لمن يطلبها فيستطيع ان يتنقل بها ويعيدها ساعة يشاء حسب الاتفاق. لكن يبقى السؤال كيف يمكن تزويد هذه السكوترات بالطاقة الكهربائية في غياب الكهرباء لساعات في مختلف المناطق؟