كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
سفارة لبنان في أوكرانيا أغلقت أبوابها تاركة اللبنانيين الباقين هناك شبه يتامى يتخبطون وسط حرب لم تضع أوزارها بعد ويجهدون في تولي امورهم بأنفسهم. أقوال كثيرة تشاع حول أسباب إقفال السفارة وتبريراته لكن النتيجة واحدة: اللبنانيون هناك كما الأوكران من أصل لبناني متروكون لحالهم وإن كانت سفارة لبنان في رومانيا قد خوِّلت تولي شؤونهم الرسمية. أعدادهم غير دقيقة تختلف باختلاف المصادر لكن الحقيقة أن الجالية منقسمة على نفسها وكل يحاول أن يثبت أحقيته بتولي رئاستها.
بعد سنة ونيف على بدء الحرب في أوكرانيا وأفول العمليات العسكرية، إلا في بعض المناطق الحدودية، كان يجب ان يشعر من تبقى من اللبنانيين هناك بالراحة والأمان كونهم باتوا بمنأى عن الخطر، لكن مشاكل من نوع آخر برزت في الأفق أبرزها إقفال السفارة اللبنانية في كييف بشكل نهائي على ما يبدو ما أدّى الى تعثر إتمام الشؤون الملحة للبنانيين المقيمين هناك واضطرارهم الى إرسال البريد الى السفارة اللبنانية في رومانيا لحلحة أمورهم.
«إذا توفي أحدنا يقول أحمد كرنبي وهو من الناشطين بين ابناء الجالية اللبنانية متزوج من سيدة أوكرانية ويعيش في البلد منذ حوالى 35 سنة، وأردنا إعادة جثته الى لبنان لا يمكننا ذلك، وكذلك الأمر إذا أردنا تسجيل طفل لضمان إعطائه الجنسية اللبنانية وكل ما عدا ذلك من أوراق رسمية نحتاجها وينبغي الحصول عليها أو توقيعها من قبل السفارة. اليوم نحاول التواصل مع سفارة لبنان في رومانيا عبر بريد يذهب بباص من كييف ويتولى شاب هناك استلامه لتقوم السفارة بتوقيعه ومن ثم يعيده إلينا. وهي ليست بالعملية الميسرة وتحتاج الى وقت وجهد، وسابقاً كان الطريق محفوفاً بالمخاطر».
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا أقفلت السفارة أبوابها؟ هل لأن أعداد اللبنانيين هناك باتت ضئيلة ولا تستوجب وجود سفارة؟ هل لأن الدولة اللبنانية تقوم بعصر النفقات وتقفل العديد من السفارات حيث لا تتواجد جالية لبنانية كبيرة؟ أم أن السفارة أقفلت بسبب شبهات فساد واختلاس أموال تدور حولها؟
لا ينفي اللبنانيون الموجودون هناك الدور الإيجابي الكبير الذي قامت به السفارة مع بدء الحرب على أوكرانيا وانطلاق عملية إجلاء اللبنانيين والطلاب من هناك. وبحسب كرنبي فقد عملت السفارة مع اللبنانيين الموجودين في كييف وخيرسون وسومي وشرنيفا على وضع خلية أزمة وتم ربط جميع اللبنانيين عبر شبكة تواصل. في خلال هذه الفترة كان يمنع على كل شاب يحمل الجنسية الأوكرانية الخروج من البلد فاضطر بعض الشباب اللبنانيين من حملة الجنسية الأوكرانية الى تجديد جواز سفرهم اللبناني القديم أو الحصول على laisser passer ليتمكنوا من عبور الحدود. وكان وقتها السفير علي ضاهر موجوداً على الأرض يتابع عمليات الإجلاء. ثم غادر السفير كييف عند انتهاء عملية الإجلاء ليعود بعدها ويمارس عمله حتى العاشر من كانون الأول ليغادر من جديد بسبب عطلة نهاية السنة من دون أن يعود بعدها الى كييف.
في هذه الأثناء، بدأت روائح الفساد تفوح من السفارة وتتكشف خيوط فضيحة كبرى حيث قيل إن ثمة مبالغ مالية ضخمة مفقودة منها والحسابات غير مضبوطة. ووفق ما أفادنا أحد المصادر في وزارة الخارجية تم إرسال مراقب من قبل وزارة الخارجية للاطلاع على الحسابات والسحوبات من المصرف واستطلاع وضع السفارة ونتيجة لما توصلت إليه هذه التحقيقات تبين أن ثمة إشكاليات غير واضحة سواء في حسابات الواردات أو النفقات المرتبطة بعمل السفارة تدعو الى الشك فتم إثر ذلك إقفال السفارة بشكل نهائي.
من يسهل أمورهم؟
لبنانياً وعلى صعيد وزارة الخارجية الأقفال تم بسبب سياسة عصر النفقات التي تعتمدها الحكومة اللبنانية وأقفال السفارات في البلدان التي لا تتواجد فيها جالية لبنانية كبيرة وفاعلة وهذا ما ينطبق اليوم على أوكرانيا. عدد اللبنانيين المتبقي في أوكرانيا غير دقيق تماماً ففي حين يقول السيد احمد كرنبي أنهم حوالى 300 شخص مع عائلاتهم فإن مصادر تابعة لوزارة الخارجية تفيد بأن عددهم لا يتجاوز 50 شخصاً لا سيما أن كل من غادر أوكرانيا وهو تحت الستين من العمر لم يعد إليها حتى لا يتم استدعاؤه الى التجنيد. ويضيف المصدر أن مدينة خاركوف التي كانت تعج باللبنانيين لا سيما الطلاب لم يتبق فيها منهم إلا أربعة او خمسة اشخاص.
رغم التفاوت في الأعداد فإن اللبنانيين الذين لا يزالون يعيشون في أوكرانيا يطالبون بإعادة فتح السفارة لتسيير أمورهم. وقد طالبوا ببيان لهم في الخامس من شهر آذار 2023 توجهوا به الى رئاستي مجلس النواب والوزراء وإلى وزير الخارجية بإعادة فتحها مبررين ذلك بان الربط بين إقفال السفارة والقضية المالية التي تم التحقيق بها هو ربط في غير محله لأن المتضرر هو مصالح اللبنانيين ولا سيما الطلاب. الحل وفق البيان يكون بتسريع المحاسبة القضائية إنطلاقاً من الوقائع التي أصبحت معروفة خصوصاً أن وزارة الخارجية لم تعمد الى سابقة إقفال السفارات رغم وجود حالات مشابهة وأكثر فداحة في الموضوع المالي، بل يصار في حالات كهذه الى اتخاذ تدابير أخرى لا تصل حد الإقفال. ويتابع البيان أن نفقات السفارة انخفضت بنسبة 65% مع الحرب ومع عدم اضطرارها لدفع بدل إيجار مع تقديم أحد الأشخاص طابقاً ليكون مقراً للسفارة ومع تقليص عدد الموظفين بشكل كبير. كذلك يؤكد البيان أنه لا يمكن أن يكون حجم ما تحصله السفارة من واردات هو المعيار لإبقائها من عدمه بل أن مصالح أبناء الجالية الاستثمارية والتجارية والتربوية هي التي تحدد ذلك. وينتهي بالقول بوجوب وجود تمثيل دبلوماسي وقنصلي في أوكرانيا على مستوى سفير تسهيلاً لأمور اللبنانيين من جهة وحتى لا يعتبر إقفال السفارة رسالة ذات معان سياسية قد تضع لبنان في موقف معادٍ لأوكرانيا حسب البيان.
متورط أم غير متورط؟
قرار إقفال السفارة لا عودة عنه على ما يبدو والقضاء سائر في التحقيقات التي ستكشف كل المستور أما الحكومة اللبنانية فقد وجدت في الأمر «شحمة على فطيرة» واستغلت الموضوع لإقفال السفارة وعصر النفقات. في هذا الإطار يؤكد مصدر في وزارة الخارجية أن أوكرانيا المشغولة بحربها غير مهتمة اليوم فعلاً بوجود سفارة لبنانية أم لا فيها والعلاقات بين البلدين تتولاها وزارة الخارجية والسفير الأوكراني في لبنان يقوم بما عليه من تحركات للحفاظ على العلاقة بين البلدين لذا فإقفال السفارة لا يعتبر رسالة سياسية. لكن ما يخشى منه وفق المصدر المطلع نفسه أن تتم لفلفة قضية السفير والسفارة كما حصل مع سفير لبناني آخر في دولة خليجية صدر في حقه قرار ظني مع منع سفر إثر شبهة اختلاس مليون دولار، فتمّ إلصاق التهم المنسوبة إليه بمحاسب السفارة ثم تمّ نزع قرار منع السفر عنه عند وصوله الى المطار بمشاركة قوات الأمر الواقع فاستطاع أن يغادر الى أميركا وانتهت بذلك قصته.
متورط أم غير متورط، لا يمكن الحكم مسبقاً على السفير اللبناني في كييف علي ضاهر ولا على سمعته التي يتداول بأخبارها لبنانيو أوكرانيا. بل أن أبناء الجالية أنفسهم وفي أكثر من بيان أوضحوا أنهم يتركون الموضوع للقضاء أو الدولة اللبنانية ولا يسمحون لأحد بذر الرماد في العيون لإخفاء وتشويه الحقائق وبحسب ما يقول أحمد كرنبي فإن اللبنانيين في أوكرانيا يشهدون على نزاهة السفير ضاهر وتفانيه في خدمتهم على مدار الأيام ولا سيما خلال الحرب. نزاهة يترك للقضاء البت فيها… لكن مهما يكن من أمر فإن قرار إقفال السفارة جاء مجحفاً بحق موظفيها اللبنانيين والأوكران الذين دفعوا الثمن من تعويضاتهم ورواتبهم. هؤلاء وفق ما يقول مصدر مطلع شكوا إليه أمرهم لم يتلقوا رواتبهم لعدة اشهر ولم يحصلوا على أية تعويضات نتيجة إقفال السفارة ما زاد من أعبائهم التي أتت لتضاف الى ما يتحملونه من أعباء نتيجة الحرب وما خلفته في أوكرانيا. وهنا يطرح السؤال أليست وزارة الخارجية مسؤولة عن هؤلاء الموظفين وهل يمكن ظلمهم بهذا الشكل الفاضح؟
جالية واحدة أم اثنتان؟
مشكلة اللبنانيين في أوكرانيا اليوم باتت متشعبة مع إنقسام الجالية على نفسها ووجود أكثر من ناطق باسمها. فمؤخراً تم إنشاء جمعية باسم الجالية اللبنانية في أوكرانيا وتسجيلها في وزارة الخارجية اللبنانية بتاريخ 11 نيسان تحت الرقم 2181 مع عدم وجود سفارة لبنانية في أوكرانيا لتصادق عليه. لكن هذه الجمعية برئاسة علي شريم التي اعتادت التحدث باسم الجالية اللبنانية يبدو أنها لم تنل رضى مختلف أطياف الجالية اللبنانية في أوكرانيا. و قد نشر السيد أحمد كرنبي باسم «لبنانيون مقيمون في أوكرانيا» بياناً جاء فيه ان هذه الجمعية التي امتنع السفير عن المصادقة عليها لمدة خمس سنوات لا تمثل اللبنانيين وأنه حتى اللحظة لا توجد هيئة تمثل وتجمع كل اللبنانيين المتواجدين على الأراضي الأوكرانية لذا فهم لا يقبلون بأن يتم حصر موقف اللبنانيين بشخص معين لا يحصل على موافقة الأغلبية. هل اتخذ الخلاف منحى مذهبياً على ما هو شائع في كل ما يخص لبنان من أمور؟ يبدو أن الأمور تسير في هذا الاتجاه رغم نفي المعنيين ذلك. ففي حين يقول البعض إن الجمعية المذكورة ذات أغلبية شيعية يقول آخرون إن كرنبي وهو منسق تيار المستقبل في كييف لا يمثل إلا نفسه وهو لا يتحدث باسم الجالية كلها فيما يصر الأخير ان حوله مجموعة من الأشخاص من كل الطوائف.
مهما يكن من أمر الجالية اللبنانية وانقساماتها فإن السفارة قد أقفلت تاركة الملف مفتوحاً او ربما مقفلاً على زغل…