من باب الدراما تدخل مأساة النزوح السوري بيوت اللبنانيين والسوريين ويومياتهم. هي ليست غائبة، لكنها هنا تحضر في التفاصيل أمام الجمهور الكبير في البلدين وفي البلاد العربية والمهاجر. “النار بالنار” عنوان كبير وقاس لمسلسل تلفزيوني لبناني سوري، يحكي قصة العلاقة الملتبسة والمعقدة بين النازحين السوريين ومضيفيهم اللبنانيين.
قد يدّعي البعض أن المسلسل يفتح جروحاً، لكن الأمر ليس كذلك، فالجرح مفتوح بمسلسل وبلا مسلسل، والكلام كثير في الموضوع، في السياسة وفي الاقتصاد وفي الطوائف. في المدن وفي القرى والأحياء، وفي المدارس والجامعات والأسواق وسيارات التاكسي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
يطرح المسلسل قضية اللجوء والعلاقات بين اللبنانيين والسوريين، من خلال حكايا يومية لحي شعبي فقير في بيروت أو ضواحيها، تسكنه نماذج لبنانية وسورية محطمة ومقهورة ومنبوذة ومشردة، تعيش في مجتمع سفلي ينشط فيه تجار الممنوعات والمرابون والمتطرفون والهامشيون والاستغلاليون، وتتعايش فيه كل مظاهر الفقر والثراء غير المشروع الذي يعيش على مص دماء الفقراء اللبنانيين والسوريين على حد سواء.
قد تبدو قاسية بعض المشاهد والحوارات، لكنها حقيقية، لا ضرورة لإخفاء الحقيقة التي يعرفها ويلهج بها كل اللبنانيين. تعليق اللافتة التي تحدد وقتاً “لينضبّ” السوريون إلى منازلهم ليس تخيلاً درامياً، هو واقع شهدته مدن وبلدات كثيرة. صعود مظاهر عنصرية لبنانية ليس سراً، وانتشار التشبيح والجريمة في أوساط سورية لاجئة ليس سراً. المنافسة في سوق العمل ليست سراً، وتحمّل اللبنانيين أعباءً كبيرة جراء استهلاك الخدمات العامة ليس سراً أيضاً. هذا كلام متداول رسمياً وسياسياً وشعبياً.
النازحون السوريون في كل مكان هم مشكلة لبلدان النزوح ومشكلة لبلدهم، وهم في لبنان مشكلة أكبر، لأن البلد ينوء تحت أعباء لا طاقة له بها، وإذا كانت سوريا خاضعة لقانون قيصر الأميركي الذي يفرض عليها حصاراً اقتصادياً وسياسياً، فإن لبنان يعاني وضعاً مشابهاً من دون قانون أميركي يفرض الحصار عليه. لبنان الصغير الفقير المنهار تحت ضغط الفساد والعجز السياسي، والمربوط رباطاً لا فكاك منه بأزمات المنطقة وقواها الإقليمية والدولية، بات عاجزاً عن تحمل عبء أزمته وأزمة اللاجئين السوريين إليه، فيما العالم يشيح بنظره عن معاناته وحاجاته. لم يعد أحد في العالم يثق بطبقته السياسية وبأمانتها، وعليه تدبر أمره بنفسه، وهذا ما يدفع ثمنه المواطن اللبناني الذي صار ينظر إلى النازح السوري كمنافس على رغيف الخبز وعلى فرصة العمل…
أبعد مما يطرحه المسلسل من إشكالات يومية بين سوريين ولبنانيين في حي فقير، يرمز الحي إلى البلد المنهار، لبنان الذي لا مرجعية له ولا ضابط لمسار حوادثه، لبنان حيث ينهار كل شيء، السلطة والأخلاق والثقافة، لتحل محلها سلوكيات تنذر بحرب، أو على الأقل بشيوع الجريمة والإفلات من العقاب.
مشكلة اللاجئين (أو النازحين) السوريين في لبنان هي فعلاً دراما قائمة بذاتها، كلما طالت مدة بقائهم أصبحت عودتهم أكثر تعقيداً. من تستقر حياته في لبنان (أو في أي مكان آخر) يستصعب العودة. من يولدون هنا يتكيفون وتأخذهم الحياة. الخاسر الأول على المدى الطويل بلادهم. لأنهم في بلدان النزوح، العربية خصوصاً، سيبقون سوريين، لن يجنّسهم أي بلد عربي، وأوروبا أخذت من أخذته منهم وانتهى الأمر. لا حل إلا بعودتهم، وهنا المشكلة المعقدة. ما زالوا وقوداً لحرب لم تنته بعد، ولا أحد من القوى القادرة والمعنية يريد عودتهم. ما على لبنان إلا الصبر. لقد حاول كثيراً، ورفع الصوت وناشد العالم وتوسط لدى القريب والبعيد، لكن لا يد مدت لغريق، ليدرك أن القضية أكبر منه.
يصرخ اللبنانيون مستحضرين فزاعة التوطين، لكنهم لكثرة ما استخدموها لم يعد أحد يصدقها، لم ينجح مع اللاجئين الفلسطينيين، وعددهم أقل بكثير من اللاجئين السوريين، ولن ينجح مع هؤلاء، لا الظروف المحلية ولا الإقليمية ولا الدولية ظروف توطين، ولا لبنان رغم ضعفه يمكن أن يسلم بالتوطين. لا الشيعة يقبلونه ولا المسيحيون ولا الدروز ولا السنّة. السوريون ليسوا لاجئين بلا وطن. ليسوا كالفلسطينيين الذين أتت مجموعات بشرية أخرى وسلبت أرضهم وغيّرت اسمها ومعالمها وهويتها. أرضهم وبيوتهم على مرمى حجر وما زالت ملكهم.
لا يمكن إنكار أن هناك أزمة لاجئين في لبنان تفاقم وضعه تأزماً، وأن هناك شرخاً شعبياً يعكسه المسلسل، الذي لم يتطرق حتى الآن إلى الغصة التي يشعر بها اللبنانيون المسحوقون وهم يرون اللاجئين السوريين في الطوابير أمام الصرافات الآلية لسحب المساعدات الأممية بالدولار الفريش، فيما هم لا يعرفون لون الدولار وشكله.
لم يخترع المسلسل الأزمة، هي موجودة ويجب أن تكون حاضرة في السياسة والأمن والاقتصاد، كما هي حاضرة في البيوت.
على أمل أن تأتي الانفراجات الإقليمية بانفراجات على سوريا ولبنان، فتستعيد الأولى أبناءها وتهدأ مخاوف الثاني وتخف معاناته.
النهار العربي