كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
عندما يعتبر الأمين العام لـ»”حزب الله”» السيد حسن نصرالله أنّه لا يحقّ لأحد أن يسأله عمّن كلّفه بأخذ لبنان إلى خيارات الحرب وغير الحرب من دون استشارة أحد، بـ”أن الله مكلّفني ونحنا ناس الله مكلّفنا وإنت مين كلّفك وليش إنت إنسان؟”… يصبح كل شيء مباحاً بالنسبة إلى “الحزب” ويصبح أي سؤال له عن تصرّفاته وسياساته تحت سقف هذا التكليف “الإلهي”، بمثابة اعتداء على ما يؤمن به ويمارسه ويطبّقه. ولذلك لا يعود مستغرباً ما يفعله بل يصبح كل انتقاد له هو المستغرب بالنسبة اليه.
من العاقبية إلى رميش وما بينهما أمثلة كثيرة على هذا «التكليف الإلهي» الذي لا يمكن أن يَخضع «الحزب» من خلاله للسؤال فكيف بطلب خضوعه للمحاسبة. وضمن هذا المفهوم يصبح مثلًا قرار اغتيال الرئيس رفيق الحريري من ضمن هذا التكليف، ويصبح الذين نفّذوا عملية الإغتيال بمثابة القديسين كما وصفهم الأمين العام لـ»حزب الله»، وبالتالي لا يمكن أن يتمّ توقيفهم لا اليوم ولا بعد مئة عام، كما قال، لا أمام محكمة دولية ولا أمام أي محكمة لبنانية. كأنّ محكمة «الحزب الإلهية» أخذت القرار وأصدرت الحكم وطبقته بواسطة آلياتها التنفيذية أو ضابطاتها العدلية الخاصة.
وضمن هذا الإطار أيضاً تأتي سائر عمليات الإغتيال التي طالت معارضي «الحزب» من قيادات من 14 آذار منذ العام 2005 وحتى اغتيال لقمان سليم، والتي هناك شكوك في أن «حزب الله» يقف وراءها بحيث لا يمكن التحقيق فيها ولا يمكن توقيف أي مشتبه به، ويتم الإكتفاء بوصف جرميّ فقط للحادث الجرمي ويبقى الملف من دون أي ورقة ويكتفي القضاء اللبناني بالخضوع لهذه القاعدة. فالضابطة العدلية الرسمية لا تستطيع أن تحقّق ولا أن توقف أي مشتبه به ولا القضاء يمكنه أن يدّعي.
ولذلك لو لم تتشكّل المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لبقيت القضية مقيّدة ضد مجهول حتى لو تمكّن الرائد الشهيد وسام عيد من تحديد شبكات التواصل وأسماء الذين تواصلوا بين بعضهم لتنفيذ عملية الإغتيال. فمثل هذا الأمر يعرّض المكتشف «للعقاب الإلهي» ولا يمكنه أن يعرّض المشتبه بهم. ولذلك يصبح منطق «حزب الله» فوق منطق الدولة والمؤسسات ويعمل بالتالي على إخضاع هذه المؤسسات التي تصبح عندها هذه المسألة عادة وقاعدة فلا تعود تسمح لنفسها بتجاوزها. وبالتالي عندما تواجه أي قضية من هذا النوع تلتزم بالسقف ولا تتجرّأ على المحاسبة.
ولا يخرج عن هذا الإطار موضوع التحقيق في تفجير مرفأ بيروت. إذ عندما حاول المحقق العدلي القاضي طارق البيطار تجاوز هذه القاعدة تمّ التصدّي له بكل الوسائل المتاحة لمنعه من استكمال التحقيق وعدم الإقتراب من كشف الحقيقة، مع أنّه لم يدّعِ على أيّ مسؤول من «حزب الله» بل كانت ادعاءاته تطال بعض من يدورون في محيط «الحزب». ومن هذا المنطلق يمكن فهم أسباب معارضة «حزب الله» الشرسة لإنشاء المحكمة الدولية ومحاولة إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2006، لأنّها أيضاً تجرأت على كسر هذه القاعدة بينما كان «الحزب» يريد أن تمشي الأمور بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكأنّ شيئاً لم يحصل.
من يضمن أمن القوات الدولية؟
خارج هذا السياق كيف يمكن مثلاً فهم سبب عدم توقيف أي مشتبه به في قضية قتل الجندي الإيرلندي شون رووني التابع للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان حتى لو لو يكن لـ»حزب الله» علاقة بالموضوع أو حتى لو لم يعطِ «الحزب» أمراً بهذه العملية، أو حتى لو كان الحادث غير مفتعل وغير مخطّط له وابن ساعته؟ وكيف يمكن أن تبرّر السلطة الأمنية والقضائية مثل هذا الأمر في قضية تتعلّق بأمن القوات الدولية الخاضعة لقرارات مجلس الأمن الدولي والمنتشرة في جنوب لبنان بقرار منه، والتي تتجدّد مهماتها بقرار منه؟ وهل تغني عن التحقيق زيارات التعزية التي قام بها مسؤولون رسميون إلى قيادة القوات الدولية في الناقورة؟ بأيّ منطق يمكن لهؤلاء المسؤولين أن يواجهوا العالم وكيف يمكنهم أن يغطّوا على الحقيقة وعلى التحقيق وكيف يمكنهم أن يستمرّوا في مواقعهم؟
حق فوق الحقوق
وإذا كان مثل هذا الأمر يحصل في موضوع له علاقة بالقوات الدولية وبجريمة موصوفة وواضحة المعالم، فلا يعود مستغرباً ما يحصل في رميش مثلاً من خلال الإعتداء على الممتلكات الخاصة بأبناء البلدة من جانب «جمعية أخضر بلا حدود» التي تشكّل غطاء لجماعة «حزب الله». فـ»الحزب» أعطى لنفسه حق التمركز في أيّ مكان يريده على قاعدة أنّه ينفذ مهمات إلهية ولا يمكن أن يعترضه أحد. ومن هذا المنطلق يصبح تمركزه في أراضي بلدة رميش من قبيل الأمر الواجب ولا يمكن أن يعارضه حتى أصحاب الأملاك الخاصة لأنّهم بذلك يصيرون عملاء ويعرقلون مهمة «حزب الله الإلهية». فمنذ بدأت المشكلة مع «الحزب» في رميش قبل أشهر تصدّى الحزب للأهالي وهدّد عناصره بجرف البلدة من أساسها وأصرّ على البقاء في مراكزه. وإذا كانت هذه المراكز يجب أن تُحاط بالسرية فلماذا يشقّ الطرقات إليها بحيث يصير متاحاً تحديد مواقعها، ولماذا يعتدي على الأملاك الخاصة ولا يقيم أي اعتبار لأي اعتراض ولماذا لا تتدخل أجهزة الدولة لإعادة الحق إلى أصحابه؟
لو تدخلت الدولة لإعادة الحق إلى الكنيسة المارونية في لاسا لما كان «الحزب» تجرّأ على استباحة أملاك الناس في رميش. وبسبب هذا التخلّف الرسمي عن إحقاق العدالة يصير كل شيء مباحاً وتصير ملكية الأراضي مسألة قابلة للطعن بموجب ما يعتبره «حزب الله» بأنّه حقّ تاريخي وخطأ يجب تصحيحه. ولذلك يُنازع في ملكية الأراضي ويعتبر أنه تمّ مسحها خطأ منذ أيام الإنتداب الفرنسي أو حتى قبله وهي أملاك انتزعت من الشيعة وأخذها المسيحيون عنوة، وبالتالي يجب أن تعود إلى الشيعة وهذا المنطق يريدون تطبيقه على الممتلكات والمشاعات الممتدة من جرد جزين إلى جرد العاقورة وتنورين على سلسلة جبال لبنان الغربية، وعلى الأراضي التي يشقون فيها الطرقات ويتمركزون فيها في رميش بحجة الشك في ملكيتها ومن دون مناقشة حتى في هذه الخيارات.
من الأراضي إلى السياسة
لا ينطبق «الحقّ الإلهي» فقط على الأراضي بل على السياسة أيضاً. ضمن هذا المنطق يتصرّف «الحزب» وكأنّه وصيّ على السلطة السياسية وعلى القوى الأمنية والقضاء. وإلّا كيف يمكن فهم سبب عدم توقيف أي متّهم منه في أحداث خلده مثلًا أو في أحداث الطيونة؟ وكيف يمكن فهم منع «الحزب» اكتمال النصاب في جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وكيف فَرَضَ الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان على مدى عامين ونصف من دون أن يرفّ له جفن أو يخشى انهيار الدولة والمؤسسات؟ وكيف قمع ظاهرة ثورة 17 تشرين واعتبرها موجّهة ضدّه؟ وكيف يمكن فهم خلافه الأخير حتى مع «التيار الوطني الحر» ورئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون؟
فـ»الحزب» بمنطق حقّه «الإلهي» لا يمكنه أن يقبل بأي رئيس جمهورية قويّ وبأيّ جيش قويّ وبأيّ دولة قويّة حتى لو كانت في ظلّ عهد ميشال عون. وبالتالي من هذا المنطلق يمكن فهم أسباب هذا الخلاف الذي استفاق عليه عون بعد انتهاء ولايته. فـ»الحزب» منع انتخاب غيره وأسهم في وصوله ولكنّه يرفض أن يكون هناك دولة قويّة. ولذلك منع قيام هذه الدولة وانتهى عهد عون بالإنهيار الشامل الذي يبرّر بقاء سلطة «الحزب» فوق كل السلطات الأخرى. يهمّ «الحزب» أن يكون الرئيس تحت تصرفه ولا يقبل إلا برئيس لا يمكن أن يطعنه في الظهر بينما المطلوب رئيس يحمي ظهر لبنان وصدره، كما قال البطريرك الماروني بشارة الراعي. ولذلك لم يدعم «الحزب» الرئيس عون في مسائل تقوّي عهده وبقي العهد معطّلاً والدولة معطّلة، في وقت لم يجرؤ عون على الخروج من تحت طاعة «الحزب» وأمينه العام. ولا يمكن أن تكون استفاقته جدّية بعد خروجه من القصر الجمهوري لأنّ ما فات قد مات، ولأنّه لم يفعل عندما كان المطلوب منه أن يفعل. فهو دخل في تفاهم مار مخايل مقتنعاً ومؤمناً بحقّ «حزب الله الإلهي» وبأن السيد حسن نصرالله لديه تكليف إلهي يمكنه أن يجيّره إليه من دون أن يتنازل له عنه.
أمان المسيحيين
في 11 كانون الأول الحالي قال وزير الثقافة محمد المرتضى خلال افتتاحه معرضاً للفنّ التشكيلي «مرايا فنية» في قصر الاونيسكو: «حماية الوجود المسيحي في لبنان واجب ملقى على عاتق المسلمين، وحفظ التنوع هو الضامن لإستمرار الكيان. النعرات الطائفية تعود الى زمن بائد وأدناه ولا رجعة لها ولن تقوم لأصحابها قائمة، والراجعون الوحيدون هم الصادقون العاملون على بناء وطن لجميع ابنائه».
ونبّه الى «بعض الاصوات التي تشيع بأن المسلمين متواطئون على المسيحيين»، وقال: «هذا منطق سقيم وغير سوي وصاحبه يخدم اسرائيل من حيث يعلم او لا يعلم، لأن الشرذمة وتأليب اللبنانيين بعضهم على بعض وتخويفهم من بعضهم البعض هي جميعها أهداف يعمل العدو الاسرائيلي على تحقيقها». وقال: «أنا المسلم أتعهّد بأن اكون الضمانة للمسيحي في بقاء وجوده الحرّ والفاعل وفي حفظ ايمانه ومقدّساته، ايماني يدعوني الى ذلك، مصلحتي الشخصية في بقاء الكيان تفرض عليّ ذلك».
قد يكون الوزير حسن النية في حرصه على أمان المسيحيين في لبنان. ولكنه طبعاً ليس هو من يشكّل الضمانة لهذا الأمان ولا «حزب الله» طبعاً ولا المسلمين، من خلال منطق يقود إلى أن المسيحيين آمنين في ذمة المسلمين على قاعدة أنتم في ذمتنا. حتى في ظل هذا المنطق لا يتصرّف «الحزب» في رميش وفي غير رميش لأنّه يجعل أهلها غير آمنين ولأنّه يصبح كأنّه الـ»أخطر بلا حدود» على وطن كان «أخضر بلا حدود». وهل مشكلة الوزير المرتضى هي مع المسيحين فقط لكي يتحدّث باسم المسلمين جميعاً؟
ربما بات على «حزب الله» مراجعة استراتيجيته لأنّه ما عاد يمكنه أن يحمِّل لبنان أكثر مما يمكن أن يتحمّله، لأنّ هذا الحمل يستدعي أن تراجع سائر المكونات اللبنانية استراتيجياتها الناتجة عن عجزها عن تحمّل أعباء ما تفرضه عليها استراتيجيات «الحزب». وبالتالي تحت هذا السقف تصبح رئاسة الجمهورية من دون تغيير هذه الإستراتيجيات ومراجعتها مجرّد تفاصيل أمام عدم الأمان الذي يشعر به بعض الأهالي في ظل الأمن الذي يفرضه منطق «الأهالي».