كتب عمّار نعمة في “اللواء”:
بعد أسابيع قليلة يحتفل (أو هكذا يُفترض) “التيار الوطني الحر” و”حزب الله”، مثل كل عام، بمناسبة توقيعهما إتفاقية مار مخايل التي ستبلغ في السادس من شباط المقبل عامها الـ 17.
لكن العيد هذه المرة لن يكون كسابقيه للمرة الأولى في تاريخ العلاقة التي تمر في أدق فترة خلال المراحل المختلفة بين الجانبين قد لا تهدد الاتفاق من أساسه وهو ما يذهب إليه كثيرون يتربصون بالتيار والحزب ويتحينون الفرصة للانقضاض على الأول خصوصاً، لكن في المقابل فإن الأزمة تركت آثارها العميقة على العلاقة.
لم يكن سماح “حزب الله” بعقد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة سوى القشة التي قصمت ظهر البعير في خلاف يكبر مع كل يوم من دون حل جذور الاختلاف الحاصل الذي وصل الى حد الخلاف المستعصي وسط تناقض الأولويات: الحزب في سلاحه من جهة، والتيار في “بناء الدولة” وبيئته المسيحية من جهة ثانية.
تحت هذين العنوانين فاضت المياه في كأس الخلافات بين الجانبين، برغم كل التحذيرات من بعض الحريصين على العلاقة الاستراتيجية داخل كل جهة ومن حلفاء يعترضون على ما ذهب إليه “حزب الله” من “تجاهل” لحساسية التيار تجاه قضايا بالغة الاهمية له، وهم حلفاء مقربون من الحزب منذ زمن طويل يعترضون على عدم مواجهته الفساد وتحوله، بعد أن كان مغطياً للمنظومة الحاكمة، إلى جزء منها يمنع ضربها وحتى الإصلاح فيها.
إتفاق استراتيجي أم مصلحي؟
لكن قبل محاولة استشراف ما ستؤول إليه العلاقة القلقة بين الطرفين، يجب التنويه الى أن تلك العلاقة الوطيدة نشأت، الى جانب العامل الاستراتيجي الذي ثبتت جديته في استحقاقات كثيرة أهمها حرب تموز 2006، نشأت أيضا لسبب سلطوي.
فبعد عوة الجنرال ميشال عون في السابع من أيار 2005 الى موطنه، تعرض لهجومات كبيرة من أخصام في السياسة كان من المفترض أنهم حلفاء في الحركة الشعبية لـ 14 آذار التي سارع عون، رئيس التيار آنذاك، الى الخروج منها وهو الذي كان شكل ركنا أساسيا فيها. بعد انتخابات ذاك العام تربع عون على زعامة المسيحيين في غالبية واضحة جعلت خصومه يتكتلون ضده منذ قدومه “المريب” على حد قولهم الذي كان يُحضر له قبل زلزال 14 شباط حين اغتيال الرئيس رفيق الحريري من ذاك العام.
ثمة من يؤكد، وهو مقرب من الحريرية السياسية، ان عون غازل أولا الرئيس سعد الحريري لعقد تفاهم مسيحي سني يمهد لوصوله رئيسا للجمهورية. وبعد فشل الاتفاق فاتح الجنرال “حزب الله” بموضوع التفاهم على أن يكون مسيحيا شيعيا بين أكبر قوتين شعبيتين في البلاد.
وبغض النظر عن صحة هذا من عدمه، فإن اتفاق مار مخايل لم يكن يستند فقط على صيغة العيش المشترك، بل أيضا الى مصلحة سلطوية تنطلق من تلك الصيغة بالذات لتشكل ثنائيا مسيحياً مارونياً وإسلامياً شيعياً يؤسس لمرحلة جديدة مختلفة تماما.
الواقع أن التفاهم هو مزيج من عوامل عدة تلحظ الوطني والمقاوم والطائفي والسلطوي، والأكيد أن الخلاف الحالي هو نتيجة تصادم الأولويات بينها.
فمن ناحية “حزب الله” هو يعتبر أنه قدم الكثير لعون ولرئيس التيار اليوم جبران باسيل ومنه وأهمه تولية عون رئاسة الجمهورية. ومنه الدعم الكبير لتحصيل التيار مقاعد عدة في البرلمان ما كان ليُحصل كتلته النيابية الحالية بحجمها القائم لولا أصوات الحزب.
الواقع أن القضية أكبر من ذلك.
فقد تعرض التيار لضربة قوية نتيجة حلفه مع الحزب أدت الى تراجعه دراماتيكيا منذ انتخابات 2009 حين حصل على نصف أصوات المسيحيين بعد أن وصل الى 70 في المئة في 2005، وصولاً الى اليوم حيث تقدر شعبيته بين 25 و30 في المئة في أحسن الاحوال. هذا الواقع لا يعوضه بضعة مقاعد هنا وهناك، فقد حدث الضرر ومصيبة التيار أن المسألة لم تعد حول عدم صدارته مسيحيا، بل انتقال الصدارة الى العدو التقليدي “القوات اللبنانية”.
طبعا لا ننسى هنا حدث انتفاضة 17 تشرين 2017 التي وجهت رصاصة الرحمة الى عهد عون الذي، للتذكير، ما كان ليصل رئيسا لولا الغطاء المسيحي من قبل القوات الذي مهد لغطاء سني من قبل زعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري.
صحيح أن “حزب الله” وضع الفيتو على أي مرشح آخر، لكن الصحيح أيضا انه لم يكن ليستطيع ايصال عون لولا “تفاهم معراب” بين التيار والقوات.
الغطاء المسيحي ضرورة للرئاسة
هذا الغطاء المسيحي هو ما يلزم أي مرشح للحزب اليوم لكي يصل الى الرئاسة وهو ما يفتقده مرشحه زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية الذي ينتقد العونيون إصرار الحزب عليه حتى بعد مفاتحته برفض عون وباسيل له بما يسمح للآخرين بوضع الفيتو على باسيل بينما ممنوع على الأخير وضع فيتو على فرنجية.
والواقع ان باسيل الذي تعرض لعقوبات أميركية جراء حلفه مع الحزب، لم يعد بمقدوره الاستمرار بصيغة التحالف كما هي بعد ان فشل التحالف في إنجاح حكم العهد كما يقول العونيون لا بل شكل أحد أسباب فشله.
طبعا يتغاضى هؤلاء عن كل إخفاقاتهم الذاتية ويستندون من جديد الى نظرية المؤامرة، وبعضها صحيحة، لكنها لا تعفيهم من المسؤولية كما لا تبرر صعود اليمين المتطرف داخل التيار والداعي الى تقسيم متوهم يسترجع زمناً ولّى الى غير رجعة.
يكرر العونيون أنهم توصلوا الى القناعة المرة بأنهم لا يستطيعون الحلول عند “حزب الله” بديلا عن الرئيس نبيه بري. لكنهم يقولون بعد الأزمة الاخيرة ان التيار لم يعد ضمن أولويات الحزب وهو تراجع لصالح كل المنظومة، سواء برغبة الحزب أو بسبب اضطراره لذلك، ما تُرجم بعقد جلسة الحكومة الاخيرة.
والحال أن عون نفسه أعلن معارضته لجلسة الحكومة مثار الجدل وكان الحزب يعلم ذلك، لكن الرسالة عبر الجلسة ومن ثم بيان الرد باتت ضرورية في الوقت الذي يرى فيه “حزب الله” ان تطورات المنطقة ليست واضحة المعالم وهو لن يقبل بأي مرشح غير فرنجية. والرسالة ليست موجهة فقط لعون ولباسيل، بل ايضا للخارج الذي يعمل لإيصال قائد الجيش جوزف عون.
وإذا كان من المستحيل إيصال رئيس معادي للحزب، فإن الجميع يعلم ان لا امكانية لوصول رئيس لا يرضى عنه المسيحيون ما يعني، حسب كثيرين، أن الحزب سينتقل عاجلا أم آجلا الى الخطة “ب” للاتفاق على مرشح مع المسيحيين أو جزء وازن منهم بالاتفاق مع الخارج وتقاطعاته.
على أنه لم يحن أوان اختيار الرئيس وستمضي أشهر طويلة قبل اتضاح هويته، والأكيد ان موقف عون وباسيل من فرنجية سيصعب الأمور على “حزب الله” لإيصال فرنجية وسيتطلب الأمر معجزة بالاتفاق بين مرشح الحزب و”القوات اللبنانية” حول فرنجية، الأمر الذي لن يحصل سوى بتسوية خارجية ليست قريبة في كل الأحوال.
لكن اذا حصل ذلك فإن هذا يعني المزيد من التدمير لعلاقة التيار والحزب ووصولها ربما الى الطلاق في ظل “موت سريري” للتفاهم. وباتت حاجته اليوم الى “حزب الله” أقل مع سعي باسيل لرفع العقوبات عنه عبر غطاء خارجي بدفع قطري لا يتم سوى بتسوية مع الادارة الاميركية، وهذا يتطلب مسافة عن “حزب الله” يحتاجها باسيل.
تصعيد مقبل؟
في موازاة ذلك ثمة جهود عونية لترميم البيت المسيحي برعاية البطريريكة المسيحية، لم تجد قبولاً قواتياً حتى اللحظة، لكن لا مفر منها في الوقت الذي يتهدد المسيحيين كما اللبنانيين خطر أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ لبنان. وفي حال تمكنت بكركي من جمع التيار والقوات على مرشح للرئاسة سيكون من الصعب على “حزب الله” رفضه والحضور بهيئة الخصم للمسيحيين على موضوع يخصهم قبل غيرهم.
لكن كل ذلك لن يحول دون سعي “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” إلى ترميم العلاقة بعد أحدث إنجاز لها وهو ترسيم الحدود البحرية، التي لن تعود حالياً الى ألقها السابق وسيتطلب الأمر حواراً جدياً على مستوى قيادي.
ويشير هؤلاء الى أن التيار لم يشأ التصعيد العمليّ بعد الكلامي مع الحزب، ما تبين في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وكانت الرسالة فقط في وضع الاوراق البيضاء في حجمها الطبيعي والغمز من قناة الحزب لناحية إمكانية تعزيز أصوات المرشح ميشال معوض، ثم توجيه بيان رد على الحزب غير تصعيدي في انتظار كلام مقبل لباسيل سيكون متشدد النبرة من ناحية المضمون، حسب المتابعين.
والحال أنه في هذه اللحظة المفصلية وبعد كلام عوني عن إمكانية تجميد التفاهم أو بعض بنوده، لا حل للخلاف من دون حوار جديّ ومبتكر يضع أولاً ترشيح فرنجية جانباً لعلمه بأن “حزب الله” لن يتقارب مع القوات وزعيمها سمير جعجع لأجل الرئاسة، ويتفق على مستقبل العلاقة: ماهيتها وماذا يريد الطرفان منها بعيداً عن كليشيهات السابق.
فهل سيكون كل التصعيد الحالي والمقبل فاتحة إصلاح العلاقة على قاعدة “اشتدي أزمة تنفرجي؟”.