كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
“بيروت ما بتموت”. نحاول أن نصدّق. ننظر في العيون. ننظر في العمق، نغوص في المشاعر، ننظر الى الأجسام، التي تتلوّى يميناً ويساراً تحت حرّ آب اللهّاب. نتمعّن في كل “الأرواح” التي تتحدّى كل الظروف وتمشي قوافل قوافل منادية بأعلى صوت: “بدنا العدالة”. فنشعر بكمِّ البؤس المقرون ببعض الأمل ببعض الرجاء. لكن هل يُرتجى مطر بغير سحاب؟ غيوم غليظة، شديدة، تسدّ أفق الشمس. تلمع عيوننا. ترتجف قلوبنا. فنُدرك أننا في كماشة، في قبضة “الدولة القاتلة”، وحين تقتل الدولة أبناءها لا يعود يُرتجى منها عدالة. ويُصبح من العدل القول لها: إرحلي… إرحلي… لكن على من يقرأ البؤساء مزاميرهم في دولة صمّاء بكماء خرساء عن أفعالِها المشينة؟ هو الرابع من آب. هو ثالث رابع آب يأتي والدماء لم تنشف، لن تنشف، كما الوجع الهائل. فهل دخلنا مع “الدولة القاتلة” في “كوما” أم ما زلنا قادرين أن نتحرّك بأنفاسِنا الأخيرة؟ نتذكّر مقولة علي بن ابي طالب: من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. نحن لم نهرب، لن نهرب، وسنطالب من جديد: “بدنا العدالة”.
صور وشعاراتفوج الأطفاء هنا. هنا كان الشباب والصبيّة سحر فارس يتنفسون أحلاماً قبل عامين، قبل 730 يوماً، قبل أن يهبوا بنخوتهم الإستثنائية لإخماد حريق أكبر منهم ومن بيروت ومن لبنان. هو حريق بحجم مشيئة القتلة أرادوا ببطولتهم وشهامتهم وشجاعتهم إخماده. ظنّ هؤلاء أن الدولة، مهما خذلت ناسها، لن تجرؤ على قتلهم. أخطأوا فباتوا ضحايا. إرتاحوا؟ ربما هم ارتاحوا أما نحن فلا. نحن نحيا بقلوبٍ لم ترتح ولن ترتاح لأن “الراحة إذا طالت تولد الكسل والجهد إذا زاد يولد الثورة”. وهذا ما نحتاج إليه الآن: الثورة.
نقف أمام الأهراءات قبل أن تزدحم الصور في بؤبؤ العين. هنا كانت الطيور والعصافير قبل أسبوع وشهر وعام وعامين تقتات من بقايا مستوعبات مملوءة بأكياس القمح والطحين الممزقة. لا طيور وعصافير اليوم. لا تتعجبوا من عصفور يهرب حتى من الطعام، فالطيور تؤمن بأن الحياة والحرية أغلى من القمح. وهذا المكان، ذاك المكان، أصبح مليئا بالموت والنزف المستمر. نراقب الأهراءات- الذاكرة. تبدلت كثيرا. لم تسأل عنها الدولة. لم تسأل عن الحجر كما لم تسأل عن البشر.
تزامن الإنهيار والذكرى
ننظر كثيراً نحو الصوامع. هي تتبدل يومياً. إختلف شكلها كثيراً في آخر أسبوعين. هي التي شلعها تفجير 4 آب 2020 تبدو في 4 آب 2022 وكأنها تستعدّ لممارسة لعبة الإنتقام مجدداً بحقِّ الأهالي، وكأنها تريد أن تقول هي أيضاً: دولتي فعلت بي ذلك! فهل هي مصادفة أن يتزامن فعل الإنهيار الجديد مع فعل التفجير؟ نطرح أسئلة لا اجوبة “رسمية” عليها. نطرح الأسئلة ونحن نراقب الصوامع ونعدها: واحدة، إثنتان، ثلاث… لسنا وحدنا من نفعل ذلك. كثيرون أتوا البارحة ليستودعوا أهراءات القمح السلام. أهالي الضحايا كانوا ينظرون إليها ويبكون. لا أحد، لا أحد أبدا سيدرك البعد الروحي لها لدى هؤلاء. ألا يقال: بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان؟ والكل، الكل، باتوا يعلمون أن “دولتنا” لا تريد لناسِها أن يحتفظوا بذاكرتهم. الذاكرة تخيف القاتل.
الحزن كبير. والتجمعات بدأت منذ ما بعد الظهر بقليل. أمام قصر العدل رفعوا صور الضحايا وعبارة: جريمتكم لن تمرّ. هنا، خلف تلك الأسوار، تتكشف حقائق كبيرة كثيرة، هناك من يحاول – ويصرّ- على طمسها. في الموازاة، مسيرة ثانية تتحضر للإنطلاق من أمام مقرّ فوج إطفاء بيروت. هناك مسيرة ثالثة إنطلقت من وسط بيروت. لكلِّ مكان وموقع رمزيته. هنا، في قلب بيروت، في الوسط، علا صوت أغنيات ثورية لطالما صفق “الثائرون” لها. وارتفعت كذلك لافتة جديدة عليها صور شهداء 17 تشرين وعبارة: شهادتكم دين برقبة كل ثائر. كرمالنا إستشهدوا كرمالن مكملين. شهداء 17 تشرين – لمن نسوا – هم: عيد عباس ومحمد شعبان وحسن العطار وعمر زكريا وعلاء أبو فخر وأحمد توفيق وفواز السمان وعمر طيبا. يا الله كم أعطى لبنان شهداء وكم دفع أهله دماً وكم يسكبون دموعاً لم تؤثر في دولة أشبه بتمساح. هي دولة تنظر الى كل تلك الدموع على أنها ليست دموعها وعلى كل تلك الدماء على أنها ليست دماءها. هي دولة قتلت وتمشي في جنازات تكاد لا تنتهي.
نمشي بلا هوادة. نمشي ونمشي ونحن نراقب أهالي ضحايا المرفأ، من كل الأعمار، ممن أبوا أن يكلوا أو يملوا أو يتعبوا. تُرى من أين يستمدون كل تلك القوة والعزيمة والإصرار؟ هم أشخاص خسروا كثيراً… خسروا “قطعاً” من قلوبهم… ومن يخسر كثيراً ويصمد لا يعود يهاب شيئاً.
توابيت
محكمة دولية… لجنة تقصي حقائق دولية… عدالة… عناوين عناوين تكررت البارحة، في 4 آب 2022، من جديد. محطات عديدة توقف فيها أهالي الضحايا البارحة. توقفوا أمام السفارة الفرنسية. طالبوا فرنسا بتقديم طلب أمام مجلس حقوق الإنسان لتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية. وذكروا ماكرون انه لم يف بوعوده. فرنسا أمنا الحنون خذلت كل هؤلاء. توقف الأهالي في حديقة سمير قصير وأمام مجلس النواب وأمام تمثال المغترب أيضاً وأيضاً. توابيت رفعت وقسمٌ جديد أعلنوه: المطلوب عدالة بحجم الكارثة. ذكروا الدولة: كل يوم 4 آب. وقالوا للعالم: تقفون الى جانبنا أو سترون أحبابكم أيضا في التوابيت. فلنقف معا ونطالب بالعدالة لنحدّ من شلال الموت… كلام وتفاصيل ومحطات ومشهديات رمزية وحتى “حبال هواء” يحاول “الموجوعون” التمسك بها في وجه “سلطة” كل ما تقوم به حدوده: إعاقة العدالة.
“لا عدالة في ظل حكم الميليشيا والمافيا”. شعارات ونار في القلوب تشتعل. الحرّ يشتدّ. الحرارة لامست الأربعين درجة. وأعداد المشاركين تزيد. هي الساعة الخامسة إلا عشر دقائق. إنها الخامسة إلا عشر دقائق من يوم الخميس 4 آب 2022. ها هي الأهراءات تتهاوى على دفعات. الحجارة تتساقط وحصل الإنهيار. إنه إنهيار صومعتين جديدتين من الجزء الشمالي. يا الله. هل هي مصادفة؟ هل تحدث في الحقيقة مصادفات من هذا النوع؟ دموع أمهات ذرفت. بكينَ على فلذات أكبادهنّ من جديد. ثانية وثالثة ورابعة… سقوط الصومعتين، في هذه اللحظة الزمنية بالذات، فتحت الجروح والندوب. في تلك الأثناء مرّت، ربما بالصدفة أيضا، يافطة كتب عليها بأقلام ملونة: حافظوا على أهراءات مرفأ بيروت.
لتسقط الحصانات
الضحايا في صور. صور الضحايا علقت على الأعمدة على طول اوتوستراد الدورة الكرنتينا مذيلة صورهم بثلاثة هاشتاغات: #العدالة #طالب #تحرّك. مشانق في كل مكان. “تسقط الحصانات أمام المحاسبة”. شعار. علم لبناني ملطخ بالدم القاني. تي شيرتات ملطخة بالدم. 4 آب “جرح مفتوح” قالوها مرة ومرتين وعشرات المرات. 232 جرحاً مفتوحاً. عدد الضحايا يزيد ويزيد وهم، من كانوا (وما زالوا) يمسكون بالبلاد والرقاب، يراهنون أن ننسى ما فعلوه. “أيها السياسيون إرحلوا”. شعار لا بُدّ أن يكون قد وصل الى آذان أصحابها بلا دم.
ثلاث ساعات مرّت بين الإنطلاقة والوصول الى موقعة الإنفجار. نوابٌ شاركوا. الساعة تدنو من السادسة وعشر دقائق. غبار سقوط الصومعتين إختفى. الطواقم الطبية مستنفرة حزناً. صفارات فوج إطفاء بيروت والدفاع المدني إرتفعت أصواتها. إنها السادسة وسبع دقائق. سكون خيّم. أجراس كنائس وصوت أذان. ورؤوس وأكف مرفوعة نحو السماء: ياااا رب. هي الذكرى الثانية. هو ثالث 4 آب. وكأننا ما زلنا في تلك اللحظة. رائحة الدماء ما زالت قوية. والغضب يستمر كبيراً كبيراً. شموع أشعلت. وقسمٌ بدماء الضحايا الى أن يدق النفير ويعلن أسم المفجّر الحيوان الحقير: أن نقاتل أن نناضل أن نواجه…
إنتهى 4 آب 2022 فهل ستتكرر في 4 آب 2023 نفس المشهدية؟ الغضب كبير لكنه ما زال أقل مما هو مطلوب- ولازم- لثورة حقيقية لا تتوقف في نصف الطريق. قتلوا الثوار؟ نجحوا في قتل ثوار كثيرين لكنهم لن يستطيعوا، في نهاية المطاف، قتل الثورة.