كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
طبيب واحد، ثلاثة مهندسين زراعيّين، طبيب بيطري، ومهندسة صحية فقط لا غير. هذا هو الملاك الحالي للمفتّشية العامة الصحية والاجتماعية والزراعية في التفتيش المركزي. المفتّشية التي، بحسب المادة 16 من مرسوم تنظيم التفتيش المركزي رقم 2460 الصادر بتاريخ 09/11/1959، تؤدّي مهامها من خلال القيام بتفتيش الدوائر الصحية الحكومية والبلدية، دوائر العمل والشؤون الاجتماعية، مصلحة الإنعاش الاجتماعي والمؤسسات الاجتماعية، كما المدارس الزراعية وسائر المؤسسات الزراعية والبيطرية. مقارنة الكادر بحجم المهام كافٍ لطرح أكثر من علامة استفهام. فكيف، والحال كذلك، للأخيرة أن تُنجَز؟
في حين أن النصاب القانوني للمفتّشية يتألف من ستة أطباء، ثلاثة مهندسين زراعيّين، طبيبين بيطريَّين، مفتّشَين مختصَّين في الشؤون الاجتماعية ومفتّشَين صحيَّين، للسائل أن يسأل: كيف يمكن لملاك متواضع كهذا القيام بدور فاعل من ناحية مراقبة سير العمل وكفاءة الموظفين وكيفية تأدية واجباتهم والاضطلاع بمسؤولياتهم كما مدى تطبيق القوانين والأنظمة؟
ثمة خطة تفتيش شاملة وضعتها المفتّشية عام 2019 تطرّقت من خلالها إلى الكثير من الملفات الحياتية اليومية، منها: تلوّث مياه نهر الليطاني، مطمر النفايات الطبّية في العباسية، قطع الأشجار وتحويلها إلى فحم في جبيل، مسالخ اللحوم المخالفة، التعدّيات على المشاعات، إنشاء مزارع لتربية الأبقار ومعامل أجبان وألبان دون تراخيص، المخالفات المنسوبة إلى لجان طبية، مكبّات النفايات المنتشرة على جميع الأراضي اللبنانية وغيرها. عن إمكانية كادر خجول من المفتّشين المساهمة في تنفيذ المهام الموكلة إليه وسواها من الأسئلة تجيب المفتّشة العامة الصحية والاجتماعية والزراعية، السيّدة نضال الراعي، في حديث خاص لـ»نداء الوطن».
أين الصلاحيات؟
تتحرّك المفتّشية عفواً بحسب برنامجها السنوي أو بناءً لشكوى معيّنة أو لتكاليف خاصة تصدر عن رئيس التفتيش المركزي. ويقتصر دورها على القيام بالتحقيقات اللازمة وإعداد التقارير ورفعها إلى رئيس التفتيش الذي، من جهّته، يحيلها إلى هيئة التفتيش المركزي. كما أن عملها يتضمّن مراقبة الوزارات التالية: الصحة، الزراعة، الشؤون الاجتماعية والعمل، البيئة، الطاقة – في الشق المختص بالمياه – والصناعة في ما يختص بالأمن الغذائي.
لكن أين الصلاحيات؟ الواقع أن لا صلاحيات استثنائية تخوّل المفتّشية العامة الصحية والاجتماعية والزراعية، كما سائر المفتّشيات العامة، إصدار القرارات مباشرة، إذ إن الأخيرة تصدر فقط عن هيئة التفتيش المركزي. «أثبتت هذه الطريقة عدم فعاليتها بعد أن أدّت إلى تأجيل في العمل وتكدّس في الملفات، لا سيما وأن الهيئة، بتقاعس منها أو لأي سبب آخر، برهنت عن تأخير في معالجة كافة ملفات المفتّشيات المحالة إليها، ما استحال كمّاً من المشاكل والمماطلة. فبعض التقارير تقاعد أصحابها أو حتى توفّوا قبل أن تُبَتّ»، كما تشير الراعي. وهذا ما يتطلب تعديلاً في القوانين المرعية التي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ العام 1959.
الموارد البشرية هي أزمة بذاتها. فالملاك لم يكن كافياً أصلاً بعد ازدياد عديد المستشفيات وتشعّب الوزارات، وتفاقم الوضع سوءاً مع توالي الأزمات منذ العام 2019، إذ لم يبقَ سوى ستة مفتّشين عليهم القيام بمراقبة الوزارات المذكورة سابقاً وعملها المتعلّق بحياة المواطن اليومية على كافة الأراضي اللبنانية. وتضيف الراعي: «الراتب لم يعد يكفي ثمن محروقات للوصول إلى العمل، كما أن المفتّشين يستهلكون سياراتهم الخاصة، ورغم مناشدتنا بإيجاد حلول جذرية لهذا الموضوع إلّا أن أحداً لا يستجيب». إضافة إلى ذلك، يحول غياب المحفّزات، من بدل الانقطاع الذي يجب أن يشكل 65% من الراتب كما بدل الاختصاص، دون جذب الأطباء والمهندسين من أصحاب الكفاءة. لا بل أكثر من ذلك. فمن يزور المفتّشية يدرك مدى الإهمال الذي شهدته عبر السنوات من ناحية التجهيزات اللوجستية، رغم كثافة العمل فيها ومحاولة الاستمرار باللحم الحيّ وضمن الإمكانيات البسيطة المتوفرة.
قُدرات منقوصة
يلعب التفتيش الصحي دوراً أساسياً في مراقبة المستشفيات الحكومية ومتابعة حسن سير العمل فيها من جميع النواحي اللوجستية والإدارية والمالية، كما الرعاية الصحية وإدارة المخزون والصيدلية، إضافة إلى إدارة الموارد البشرية. طبعاً، للقارئ أن يستغرب كيف أن فريق العمل ما زال قادراً على القيام بكل تلك المهام رغم أنه لا يضمّ سوى طبيب واحد حالياً. لكن لا داعٍ للاستغراب، إذ «في الوقت الحاضر لا قدرة لدينا على إنجاز التفتيش الشامل. ويقتصر العمل على تنفيذ التكاليف بالتحقيق التي ترد إلى المفتّشية العامة بناءً على الشكاوى الواردة من التفتيش المركزي، علماً أن الشكاوى ذات الطابع الإداري والمالي تُحوَّل إلى المفتّشيات العامة المختصة»، تعلّق الراعي.
رغم ذلك، لعبت المفتّشية دوراً بارزاً خلال جائحة كورونا. هنا تقول الراعي: «قمنا بتجنيد كافة المفتّشين وقسّمنا لبنان جغرافياً ورحنا نتواصل مع القائمقامين وأطباء الأقضية لمراقبة المحجورين في أماكن حجرهم». كذلك، جرى استخدام موقع البيانات المفتوحة IMPACT للتواصل مع البلديات والقائمقاميات لمراقبة المحجورين والأشخاص الذين تعطّلت مصالحهم والذين تحوّلت استماراتهم إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. ناهيك برفع التقارير الأسبوعية ذات الصلة وبشكل دوري.
أما المهمة الأبرز فقد تمثّلت بمتابعة ومراقبة الخطة الوطنية لإعطاء اللقاح ضدّ كوفيد-19، إذ وضعت المفتّشية العامة خطة موازية لخطة التلقيح بهدف متابعة المشروع. وباعتماد منصّة IMPACT وتسجيل المعلومات المتعلّقة بتنفيذ الخطة على المنصّة، تمكّن المفتّشون من مراقبة جميع مراكز التلقيح عبر منصّة البيانات وكانوا يجتمعون يومياً ويصدرون تقريراً مفصّلاً ما ساهم في الحدّ من الفوضى التي حصلت خاصة في الأسبوع الأول وبشكل سريع. وقد حاز التفتيش المركزي على دعم المسؤولين في البنك الدولي الذين كانوا يطّلعون دورياً على التقارير الصادرة عنه. وفي هذا السياق تلفت الراعي: «كان دعماً كبيراً لنا من جهة ومسؤولية كبرى وُضعت على عاتقنا من جهة أخرى، غير أننا حصدنا نتائج مشرّفة إذ تمّ في المحصّلة موازاة شهادة اللقاح اللبنانية بشهادة لقاح الاتحاد الأوروبي».
تفتيش بلا مفتّشين
من التفتيش الصحي ننتقل إلى التفتيش الاجتماعي لندرك أن الملاك لا يضمّ حالياً أيّ مفتّش متخصّص في الشؤون الاجتماعية. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن المفتّشية لا تقوم بأي دور فاعل في دوائر العمل والشؤون الاجتماعية ومصلحة الإنعاش الاجتماعي إلا في حال ورود شكوى معيّنة. وفي وقت تحاول المفتّشية الإدارية تغطية عدد كبير من القضايا إلّا أن غياب الرقابة الفنية والتدقيق في العقود مع الجمعيات أثّر سلباً على سير العمل.
ماذا أخيراً عن دور التفتيش الزراعي في شؤون الهندسة الزراعية والمدارس الزراعية والطب البيطري؟ يقوم المفتّشون بمراقبة عمل المديريات والمؤسسات العامة التابعة لوزارة الزراعة من النواحي الإدارية والفنية، وجميع المراكز الزراعية المنتشرة على الأراضي اللبنانية، ومتابعة العمل في مراكز الحجر الزراعي والصحي التي تعمل على مراقبة سلامة المواد المستوردة والمصدّرة من أصل نباتي أو حيواني، والموجودة في المرافئ البحرية ونقاط الحدود البرّية ومطار بيروت الدولي. وتوضح الراعي أن دور المفتّشية يقتصر فقط على الرقابة ولا صلاحية لها في اتخاذ القرار. «مسؤوليتنا ليست في حلّ المخالفات إنما في متابعة ومراقبة معالجتها من قِبَل الجهات المختصة. عملنا إداري بحت وهذا هو نطاق صلاحياتنا التي حدّدها لنا القانون. هذا ما لا يعرفه المواطن، ظناً منه أننا المسؤولون عن إيجاد الحلول»، من وجهة نظرها.
شكاوى وحاجة للتطوير
نظراً للوضع الراهن في البلد، لوحظ ارتفاع هائل في عدد الشكاوى الصحية المقدّمة لا سيما ضدّ المستشفيات التي تطالب بتسديد فروقات التعاونيات والضمان الاجتماعي، إضافة إلى شكاوى تأمين أدوية الأمراض المستعصية ناهيك بتلك المتعلّقة بالبيئة وأبرزها الصرف الصحي. لكن لتمكين المفتّشية من متابعة كافة الشكاوى بنجاعة، لا بدّ من العمل على خطط تحسينية تطويرية للنهوض بها من جديد.
على رأس سلّم الأولويات تأتي المطالبة بجهاز بشري كامل ومتخصّص لإنجاز المهام المتزايدة، مع تأمين كمية من المحروقات تكفي لتنقّل المفتّشين بين الوزارات على كافة الأراضي اللبنانية، على غرار الضباط مثلاً. ومن الضروري إدخال المحفّزات لاستقطاب الأشخاص ذوي الكفاءة، علاوة على تنظيم دورات تدريبية مستمرّة لمواكبة التطوّر من أجل تمتين وتمكين الموارد البشرية. «من المستحيل الاستمرار على هذه الحال، فنحن نعمل من عزّة الروح، ولولا نيّة الفريق في التصدي للأزمات رغم الصعوبات، لكان الوضع كارثياً»، الكلام دوماً للراعي.
تعاون دولي
على صعيد آخر، يقوم حالياً الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع الوكالة الفرنسية للخبرة الفنية الدولية (EXPERTISE FRANCE) بتنفيذ مشروع الشفافية ومكافحة الفساد (ACT)، من خلال دورات تدريبية يخضع لها المفتّشون من كافة المفتّشيات العامة وتؤهّلهم لتطبيق التدقيق الداخلي الإداري والفني والتنظيمي على مستوى المعايير الدولية. وقد تمّ حتى الآن اختيار نموذجين وهما مستشفى البوار الحكومي ومصلحة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد حيث يجري التدقيق الداخلي فيهما.
نحو هيئات مستقلة؟
ختاماً، يبقى التمنّي لناحية تعديل القوانين وتحديثها بما يتلاءم مع متطلبات الوضع الراهن ومع تطور الإدارات وتعدّدها، ما من شأنه التسريع في إصدار القرارات وذلك بواسطة هيئة مستقلة لكل مفتّشية، أو من خلال زيادة عدد هيئات التفتيش المركزي، على سبيل المثال لا الحصر. فالهيئة الحالية لا إمكانية لديها للالتزام بالمهل المحدّدة لمعالجة الملفات، ما يؤدي إلى الكثير من التراكمات. باختصار، دور التفتيش المركزي هو رقابي، بنيوي وأساسي في قيام الدولة وتطبيق الإصلاحات من خلال الحوكمة الرشيدة المبنية على الشفافية والمساءلة. من هنا، كما تشدّد الراعي، المطالبة بهذه الإصلاحات إن من ناحية الموارد البشرية أواللوجستية لتمكين التفتيش من القيام بهذا الدور.