كتبت ندى ايوب في الاخبار :
قضية المحجبات ليست من أولويات الجمعيات النسوية ومموّليها (هيثم الموسوي)
لا يزال الدخول إلى السلك القضائي اللبناني بمثابة «حلم» للمحجّبات، علماً بأن لا نصوص قانونية تمنع انخراطهنّ فيه. هو عنفٌ من نوعٍ آخر، يتخطى التمييز الجندري بين النساء والرجال، ليميّز بين لبنانية وأخرى تبعاً لمظهرها الخارجي. وقائم على عرفٍ متوارث منذ زمن بعيد، منعاً لأي شكلٍ من أشكال التمييز الخارجي الدالّ على الانتماء الطائفي للقاضي، وحفاظاً على مظاهر الدولة «المدنية»
رغم الظلم المتمادي بحق المحجبات بمنعهن من دخول السلك القضائي، مع ما يستتبعه ذلك من ضربٍ للحقوق المكرّسة دستوراً: كحرية المعتقد والحق بالوصول إلى الوظائف العامة من دون تمييز، لم تتحرّك الجمعيات النسوية الناشطة بقوة في لبنان. تحرّك يتيم نظّمه طلاب كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، الفرع الخامس، عام 2019 أمام وزارة العدل. رفعوا آنذاك لافتاتٍ حملت شعارات من قبيل «حجابي ليس حائلاً لعدالتي»، «رجاحة العقل في الرأس وليست في غطاء الرأس»، «حجابي لا يلغي حقوقي»… الخ. كان التحرّك الجماعي الأول على الأرض، وبعد مرور سنوات ثلاث، تقول إحدى المشاركات فيه لـ«الأخبار»: «تحدي تحريك الرأي العام سقط. ربما قضيتنا ليست من أولويات الجمعيات النسوية ومموليها، ولا من أهداف التنمية التي تحدد أجندة تحركاتها. في حينها، وبدوافع إنسانية حقوقية، رفضنا الاستسلام للأمر الواقع المكرّس عرفياً. محجبات وغير محجبات، إناثاً وذكوراً، تظاهرنا لإعلاء الصوت. ومع فقدان الأمل بإحداث أي خرقٍ، تبدّلت خطط الزميلات المحجبات، بعضهن اتخذن خيار إتمام الدراسات العليا للعمل لاحقاً كمحاضراتٍ في الجامعة، وأخريات قررن ممارسة مهنة المحاماة كأقصى طموحٍ مسموحٍ لهن في البلد».
طرح القضية، سابقاً واليوم، هدفه فتح الباب واسعاً أمام إشكاليات عدة في بلدٍ مثل لبنان، حيث التعاطي مع مدنية الدولة سطحي. أما في العمق، فيختفي أثر المدنية على أبواب المحاكم الدينية الشرعية والروحية، التي يعود لها القرار بكل ما يتعلّق بالأمور الشخصية للمواطنين. وينتهي مفعولها حين تتقاسم الطوائف المناصب والوظائف العامة كتقاسم قالب الحلوى، حتى التشكيلات القضائية نفسها يحكمها المعيار الطائفي.
ازدواجية المعايير والتناقض تنسحب على تصريحات المعنيين القليلة في هذا الشأن. ففيما يتحفّظ مجلس القضاء الأعلى على وجود هذا العرف، ويتّسم خطابه الرسمي بالعموميات، يؤكد وزير العدل السابق ألبير سرحان، في تصريح عام 2019، تعقيباً على تحرّك الطلاب آنذاك، أن «لا مانع قانونياً أو عرفياً لدخول المحجّبة إلى السلك القضائي، إنّما المعيار هو النجاح». فإذا كانت الأمور على هذا النحو، أليس من الغريب عدم وجود امرأة محجّبة على مر تاريخ لبنان القضائي؟ وهل يُعقل أن جميعهن غير كفوءات؟ تأتي الإجابة واضحة على لسان وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، الذي رأى في حديث تلفزيوني في 8 آذار 2019: أن «لا وجود لقاضٍ يرتدي الصليب، وعلى القاضية ألّا تعطي انطباعاً بأنها مع أحد المتقاضين ضد الآخر تبعاً لطائفته،… العرف معتمد منذ سنوات، وهو منطقي ويُساعد في منع التمييز بين القضاة، فأيّ تمييز بين قاضٍ وآخر فيه أذيّة للقضاء». الخلاصة أن هناك من يبرر استبعاد المحجبات بذريعة أن «القناعات المسبقة للقاضي/ة ــــ القاضية المحجّبة نموذجاً ــــ قد تهز ثقة المتقاضين».
ما نسمعه إذاً عن أن المحجّبات لا يتأهّلن إلى المباريات الخطية، بفعل الممارسات المنهجية المعتمدة من قبل اللجان المشرفة على مباريات الدخول إلى القضاء، ليس روايات مختلقة. لكن لماذا نثق بالمرأة المحجّبة، ونسمح بتوزيرها ودخولها إلى قطاعات الدولة الرسمية، ونقفل أمامها أبواب القضاء؟ بعض المصادر القضائية ترى أن «الأمر أبعد من عرف، هو هيمنة. لطالما هيمنت الأغلبية المسيحية على القضاء، ومجلس القضاء الأعلى تحكمه ذهنية نفسها ولم تتطوّر»، سائلةً عن مدنية الدولة في حين أن «العادة جرت أن تصبّ التشكيلات القضائية في مصلحة مجموعةٍ ضيّقة مقرّبة من الكنيسة، التي تُعدّ بمثابة الدولة العميقة في القضاء. المطران الياس عودة نفسه يسمي بعض من يتولون المراكز القضائية الأساسية، وصور القاضية غادة عون، كبطلة للجمهورية، تُرفَع في بعض الكنائس».
يمكن الرد على العرف السائد من أكثر من زاوية، فعلى سبيل المثال، ينص تعريف مهنة المحاماة، بما معناه، على أن المحامي هو مساعد السلطة القضائية في إحقاق الحق، فكيف يٌسمح للمحامية المساعدة للسلطة القضائية بالحجاب واعتبار الأمر قانونياً وشرعياً دون الشك بتحيّزها، ويمنع ذلك على القاضية؟
كيف تتأثر القاضية المحجبة بالتزامها الديني ولا تتأثر قاضية ملتزمة دينياً من طائفة لا تفرض عليها زياً معيّناً؟
تأسف المحامية عليا المعلّم لـ«عدم استفادة السلك القضائي من كوادر حقوقية نسائية، والتعامل مع تلك الكفاءات بلاعدالة من قبل من يفترض بهم أن يكونوا ضنينين بالعدالة وصونها. وإن سلّمنا جدلاً بتأثّر الأحكام الصادرة عن القاضية بالتزامها الديني، فالأمر قد يحصل مع قاضية ملتزمة دينياً من طائفة لا تفرض عليها زياً دينياً معيّناً، وقد يحصل مع قضاة رجال من مختلف الديانات. فهل يجرون اختباراً للنيات؟».
بمعزل عن كون القاضية مرتدية للحجاب أو لا، النفس هي التي تنحاز وتحقيق العدالة مرتبط بمدى صحوة ضمير القاضي/ة وعدم تبعيّته لأي مرجعية دينية كانت أو سياسية. كذلك شعور المتقاضي الذي يعدّ نفسه مظلوماً لمجرد ارتداء القاضية الحجاب وافتراضه أنها ستنحاز لمتقاضٍ من نفس دينها. جميعها حجج مردودة لعلة أن طائفة القاضي تُعرَفُ من اسمه ومن طبيعة المنصب القضائي الذي يشغله، وهنا عودة للبحث عن مدنية الدولة…! إذ إن المراكز القضائية معروفة مسبقاً من حصة أي طائفة، وأكثر من ذلك بعض القضاة انتماءاتهم السياسية لم تعد خافية على أحد. وحتى على صعيد التطبيق، يجزم المتابعون أن رقابة محكمة التمييز المدنية على المحاكم الروحية والشرعية شكليّة. حجج ضرب العرف القائم كثيرة، وتبقى نتيجته واحدة… نحاكم المحجّبة ولا تستطيع هي محاكمتنا.