تحدي ثلاثة استحقاقات مصيرية!

في الرابع والعشرين من يوليو (تموز) 2019 أطلق الرئيس اللبناني ميشال عون تعهده: «سأسلم الرئيس المقبل وطناً أفضل بكثير مما هو عليه اليوم».

كان يرى أن طريق التوريث معبدة، وأن الصهر باسيل سينتقل إلى القصر ليخلفه، بعدما نجح بدعم من «حزب الله» في صياغة «تحالفات» مع أخصامه «القوات اللبنانية» و«المستقبل»، أمنت له تحقيق حلمه الرئاسي، ليعود وينقلب عليها وفق تقديره لمنحى التحولات في البلد والإقليم.

كان يعيش كغيره حالة إنكار، ففاجأته «17 تشرين» التي حدثت بعد 85 يوماً على تعهده، عندما شاهد تحالف نظام المحاصصة الطائفي والغنائمي يتصدع. رئيس الحكومة الحريري يقدم استقالة حكومته بعد أقل من أسبوعين على بدء الثورة، تسبقه «القوات» إلى القفز من المركب المهدد بالغرق.

يضطر حامل الأختام حسن نصر الله إلى تصدر المشهد، دفاعاً عن نظام المحاصصة مخوناً قوى تشرين ومهدداً ومتوعداً.

وتتالت أحداث تفوق الخيال، في انتقال البلد من عصر البحبوحة إلى عصر العوز والمجاعة، وتبرز الانهيارات كرة ثلج تضرب كل شيء في تسارع سوريالي والناس لا تصدق. ويظهر أمام عامة الناس حجم المأساة المتأتية عن تسليم قرار البلد إلى «حزب الله»، كنتيجة للتسوية الرئاسية التي منحت «الحزب» تغطية كبيرة؛ مسيحياً من خلال عون وتياره البرتقالي وسنياً من خلال الحريري والتيار الأزرق، فبات لبنان ورقة في الأجندة الإيرانية، من دون الأخذ في عين الاعتبار حاضره ومستقبله وأحلام أهله ورؤى شبابه.

البقية معروفة:
تغطية اختطاف الدولة بالسلاح فتحت الباب أمام «إنجازات» الممانعة، من اقتلاع البلد من موقعه ودوره وتحويله منصة عدوان ضد الأشقاء ومصدراً لتهريب المخدرات، واتساع جغرافية الفقر والغرق. كارتل مصرفي محمي نهب الودائع، فعزّ الرغيف وحبة الدواء، وتفاقم الإفلاس مع نفاد الاحتياطي وانهيار الليرة وتسجل البطالة أرقاماً فلكية. ويتبلور تحالف إجرامي لمصادرة الحقيقة ومنع العدالة في تفجير المرفأ، وحماية نظام الإفلات من العقاب، فيما يتحول البلد إلى طاردٍ للشباب والكفاءات وهما ثروته، ويختار كثيرون قوارب الموت فتدفن الأم رضيعها في البحر بعدما قتله الظلم والفجور عطشاً وجوعاً.

تحل الـ2022 وهي سنة الاستحقاقات الكبيرة، ويدهم المقيم في القصر كما الآخرين، إعلان سعد الحريري «تعليق العمل بالحياة السياسية». بدعة بديلة عن المألوف؛ إما انخراط أو اعتزال، والتبرير أن الهيمنة من خلال «حزب الله» محكمة، فيدير الظهر لمسؤولية المقاومة السياسية، ويقفز إلى «التعليق» متجاهلاً تنازلاته. لكن صورة صلاة الجمعة التي جمعت الرئيسين ميقاتي والسنيورة مع مفتي الجمهورية رسمت منحى مغايراً مع التأكيد بأن لا مقاطعة للانتخابات فبدا وكأنها تُسرِّعُ طي صفحة سعد الحريري التي تأخرت.

بدا الاستحقاق الأول وكأنه معركة تصفية الحريرية السياسية، واقتسام «الإرث»، أو إعادة رسم الحدود والنفوذ في الوسط السياسي السني، مع منحى رئاسي – «حزب الله» يريد تصفية إرثٍ تراكم طيلة الثلاثين سنة الأخيرة. ومن المعروف في هذا السياق أنه قبل أكثر من عقد، وارتباطاً بهذا الشأن، تبلور تجمع رؤساء الحكومات، ليقدم نفسه كحارس لهذا الإرث وخط دفاع عن دور أعضاء هذا النادي ومصالحهم.

في هذا التوقيت فاجأ رئيس الجمهورية دار الفتوى بزيارة تأخرت خمس سنوات ونيف. بدت أشبه بمغازلة للطائفة السنية عندما تذكر دورها في حماية «وحدة البلاد»، ومحورية التنوع السياسي وأهمية المشاركة السياسية في الاستحقاقات التي ترسم مستقبل البلد. زيارة قفزت فوق علاقات كانت في أدنى مستوياتها، بعدما تصدت دار الفتوى لما اعتبرته من نهج متكامل يرمي إلى قضم صلاحيات رئيس الوزراء. ومهما قيل من مبررات، فما حتّم الزيارة هو الرهان على الصوت السني في الانتخابات، بعد ترسخ التقدير حيال تراجع موقع التيار الوطني، وخصوصاً رئيسه باسيل، الذي تراجعت كذلك حظوظه الرئاسية وإن كان يعيش والقصر حالة إنكار، متعامياً عن أثر العقوبات الأميركية والفيتو الأوروبي والعزلة العربية.

انتخاب برلمان 2022 أشبه بحجر الرحى، هو محور الاستحقاقات. اعتبر البعض الانتخابات آخر المطاف، ووجد فيها آخرون محطة على طريق بلورة البديل للتغيير، والبعض يروّج للمقاطعة من دون أن يقدم بديلاً لمواجهة الهيمنة وتغول الدويلة. وتنشط الدعاية المدفوعة بأن التغيير سيبقى محدوداً، ويستندون إلى «خبراء» يقدمون الأرقام غب الطلب. لكن الكل يسأل وماذا لو أحدثت ثورة تشرين الفارق، وماذا لو حدث التصويت العقابي ضد من أذلّ الناس، ولماذا ينبغي أن تكون التجربة العراقية غير قابلة للتكرار؟ ربما هذا ما أزعج الشيخ نعيم قاسم الذي منّن اللبنانيين بأن «المقاومة» أعطت لبنان مكانته. ولم يخبرنا عن أي «مقاومة» يتحدث وأمام الناس استباحة الحدود وحماية التهريب وترويج المخدرات… لكنه لم ينجح في إخفاء قلقه من حدوث تغيير في ميزان القوى ليستدرك أن النتائج: «ستكون قريبة من تركيبة المجلس الحالي».

اليوم حظوظ إجراء الانتخابات جيدة وفاعلة جداً القوى الساعية للتأجيل والتمديد. وفوق الطاولة مشروع قانون معجل من التيار البرتقالي لإلغاء مشاركة المغتربين في الاقتراع العام وإحياء الدائرة الـ16 التي تخصص 6 مقاعد للخارج، وهو مشروع يدعمه «حزب الله» الذي سيضمن موافقة بري.

إن تعطيل اقتراع المغتربين سيفرض التمديد لعدم توفر الإمكانية زمنياً لوضع مراسيم تطبيقية للتصويت في الدائرة المستحدثة. لقد أربك بري خروج الحريري ويخشى فتح معركة وراثته، كما ورث هو الحسيني في الـ92، ويدرك أن ظروف تعطيل ترئيس جميل السيد أو حتى عباس إبراهيم تبدلت، فيشتري الوقت.

إذن عاد مشروع التمديد للبرلمان وتتمته التمديد لرئاسة الجمهورية، وتمديد سحق المواطنين وتضييع الفرص. ولأنه متعذر على «الممانعين» التوافق على البديل، فالمتوقع اتساع معارك المسترئسين فوق الساحة المسيحية.

معركة باسيل – جعجع تقدمت معركة باسيل – فرنجية، من دون إغفال المعركة ضد رياض سلامة رغم ما يمكن أن تحمله من تداعيات. وما دام باسيل مسترئساً ومستفيداً من رئاسة الجمهورية سيحاول إقصاء قائد الجيش، ولن يتسامح حيال تسليط الضوء على القاضي سهيل عبود رئيس مجلس القضاء الأعلى. ولا شيء آخر في البلد الذي يضربه بؤس وعوز وجوع وهجرة النخبة يقض مضاجع المتسلطين.

جاءت ثورة تشرين بفيض من الهواء النقي، أخرج اللبنانيين من مقاعد المتفرجين وأدخلهم حيز الفعل السياسي، وتقدمت أولويات مثل استعادة القرار والعدالة والمساءلة والحقوق. ومع فرض إخراج النواب من الحيز العام كمتهمين، يتأكد أن لا مشروعية لأي سلطة منبثقة عن قوى الأمر الواقع، ورفض ومواجهة مشروع إلغاء هوية البلد… هنا تكمن أهمية المبادرة الخليجية، عندما تعتبر ضمناً أن التمديد تغطية للمضي في التدخل السافر في شؤون المنطقة وكالة عن نظام الملالي، وتعني المزيد من الصدام مع العرب والعالم، فإنها تلتقي موضوعياً مع جهود أكثرية اللبنانيين لاستعادة الدولة المخطوفة واستعادة الدستور.

المصدر: الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

هكذا يُفشل اللبنانيون محاولات “إسرائيل بالعربية” زرع الفتنة بينهم

سعت إسرائيل مؤخرا، عبر حملات منظمة، إلى إشعال نار الفتنة المذهبية في لبنان وخاصة بين …