كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
وعاد لبنان من إسكتلندا، من قمّة “غالاسكو” الهادفة الى إنقاذ الأرض. فماذا فعل في قمّة كهذه وهو غير قادرٍ على رفعِ النفايات من شوارعه ولا إطفاء الحرائق التي تلتهم سنوياً مساحات حرجية وتلالاً خضراء وتكاد تقضي حتى على شموخ أرزه؟ وأيّ إلتزامات قادر على إيفائها وهو عاجز عن إيفاء الحقوق الى أصحابها؟ لبنان ذهب الى غالاسكو وعاد منها وكما ذهب عاد.
رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مثّل لبنان الذي كان أخضر حيّاً في قمّة المناخ ومما قال: “إن العواقب المناخية السلبية ستزيد من حدّة التحديات على لبنان وتضاعفها، وستعيق أيّ تحسن في وضعه الإجتماعي والإقتصادي” وقدّر إجمالي كلفة التغيّر المناخي على الإقتصاد اللبناني بنحو 16 مليار دولار أميركي في 2040″ مؤكداً “أن لبنان في طليعة الدول التي تسعى الى تحقيق الإستدامة البشرية والبيئية وهو شريك داعم للتصدي للتغيّر المناخي”.
جميلٌ طبعاً كل ما قال. لكن، هل صدّق “دولته” أحد؟ اللبنانيون طبعاً لم يصدقوا وكيف يفعلون وهم لولا مولدات الكهرباء غير المطابقة للشروط لكانوا عاشوا على الشمعة، ويسمعون ان انبعاثات الغازات السامة ارتفعت في الآونة الأخيرة الى 300%؟ لا، ليس ذنب نجيب ميقاتي كل “الخطر الصحي- البيئي الذي يعيشه اللبنانيون، لكنه هو من وعد قادة العالم في غالاسكو “بأن لبنان رفع جهوزيته من أجل تعميم مفهوم الإقتصاد الأخضر”!
لا “أخضر” في لبنان ولا “جهوزية” بل موت ويقين بأن لبنان سيُسجل في القريب العاجل 550 إصابة جديدة بالسرطان سنوياً و3000 إصابة جديدة بمرض الإنسداد الرئوي المزمن ونحو 500 إصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وبجلطات وبإضطرابات عصبية جراء إجتياح المولدات الكهربائية كل لبنان. غريبٌ حقاً أمر لبنان!
إلتزام بسبب العجز
زياد أبي شاكر، المهندس البيئي والصناعي ومؤسس شركة “سيدر إنفايرومانتل” لم يتابع حراك لبنان في قمة المناخ في غالاسكو “فلماذا يفعل وهو عالم أن الأمر ليس ما نفكر ونقول بل ماذا نفعل؟” ولبنان لا يفعل شيئاً.
زياد أبي شاكر ينتقل من موقع الى آخر، ومن مهمة الى أخرى، وهمه الأهم الوصول ذات يوم الى مجتمع خال تماماً من النفايات. هو يحلم بوطنٍ. أما هم فبماذا يحلمون؟ وأنتم بماذا تحلمون؟ اللبنانيون يحلمون بأن يناموا بأمعاء مكتفية. هذا هو حدود الحلم في بلادٍ نسف مسؤولوها كلّ الأحلام فحلّت بدلاً منها الكوابيس. لكن، فلنحاول أن نكون إيجابيين ولو قليلاً ولنسأل: ماذا يعني أن يتعهد لبنان أمام العالم بما هو عاجز عن القيام به؟
يرى زياد أبي شاكر “أن لبنان بالفعل قد استجاب لكن مرغماً، مكرهاً، لأن الإقتصاد اللبناني تقلص أكثر من 60 في المئة والحركة الإقتصادية الى مزيد من الإنكماش وسعر الوقود أصبح باهظاً، أكثر من قدرة الناس على تحمل شرائه، لذا “أوعا” يفكر أحد أن الدولة تلبي تلك الإحتياجات على الطاولة، جراء أبحاث وقرارات “واعية” وبالقلم وعلى الورقة، بل باستنسابية قد تحقق بعض الوعود بالإنتاج النظيف. صعود الدولار هو الذي “هلك” العملة اللبنانية فتعطل الإقتصاد وذهبنا الى تقليل الإنبعاثات. وهذا بالطبع ليس حلّاً. وذهاب لبنان الى غالاسكو كان “لزوم ما لا يلزم” فلا دور له ولا قدرة على الإلتزام الصريح الواعي بل هي إلتزامات تحصل بمحض الصدفة”.
يندرج ما قاله “دولته” في غالاسكو في إطار مقولة benefit of the doubt أي “مصادفة بعض ما قيل بالرغم من التشكيك به”. وبالتالي، وبحسب أبي شاكر، هو ليس ما يقال بل ما يتحقق بوعي وجدٍّ وجدّية. “فالحكي شيء والفعل شيء آخر مختلف تماماً” يضيف “إذا أراد لبنان بالفعل تقليص الإنبعاثات فلدينا معمل كهرباء في منطقة الذوق السكنية لم يتم تركيب “فلتر” له منذ أربعين عاماً. وهذا الفعل فاضح. هو لم يكن يحتاج إلا الى “فلتر” ولم يتحقق له ذلك. ويأتي من يخبرنا عن “جهود” سيقوم بها لبنان لحماية الأرض! هراء!
شبعنا من الكلام المعسول. فدولتنا “يا قمم العالم البيئية” لم تعمد الى تركيب فلتر لمعمل الكهرباء. فكيف ستتحدى الإنبعاثات؟ وهل تجرؤ الدولة على الإعتراف أن إصابات السرطان في منطقة الذوق- أدونيس سببها بغالبيتها تلك الإنبعاثات؟ هل تجرؤ الدولة على الربط بين إخفاقاتها البيئية الكثيرة وكلفة الفاتورة الصحية؟ “أوعا” حدا يفكر أن لا رابط بين عشرات الإصابات بالسرطان، والإصابات التنفسية، وما تفعله دولتنا بنا. و”أوعا” حدا يفكر أن السموم التي يتناولها اللبناني، وهو طفل صغير، عبر المبيدات التي تغرق بها الخضار لا تظل تتفشى في جسمه طوال العمر. ولا أحد يظن أن تلك المبيدات قد تتبخر وتتطاير. إنها تبقى وتترسب مع الوقت ونتناولها سموماً تطيح بنا. وهنا، يتحدث المهندس أبي شاكر عن شركة في كاليفورنيا ثبُت استخدامها مبيدات زراعية فتلقّت شكاوى كثيرة اضطرت بنتيجتها الى بيع كامل أسهمها، بعدما توجب عليها دفع اكثر من ملياري دولار كتعويض لمن أصابهم الضرر. فأين نحن من كل ذلك؟ اللبنانيون يأكلون السمّ ويدفعون ثمنه مالاً ومن اللحم الحيّ. فهل تحدثوا عن كل ذلك في غالاسكو؟
هنا، في لبنان، نتحدث عن البيئة وكأنها “ترف” في ظل كل السيئات التي نعيشها. وهذا ما يجعلنا ننظر الى السموم التي نتناولها ونتنشقها بقبولٍ كلّي. فالأهم منها ان نأكل وأن نتنشق وأن ننعم بكهرباء المولدات ولو كانت مثقلة بالرواسب البيئية. وهذا ما تفعله بنا دولتنا. وفي كل ذلك ننسى، أو حتى لا نعرف، أن أحد أبرز بنود حقوق الإنسان هو الهواء النظيف.
خطة طوارئ
26 قمة للمناخ حدثت في العالم. وأبرز ما فيها ضرورة توقيف المعامل العاملة على الفحم الحجري. فهل يمكن أن نقول الآن الى مصانعنا اللبنانية التي “تموت” وتتقهقر وتتقلص: عليك الإلتزام بمعايير الطاقة النظيفة؟ بالطبع لا. والحلّ؟ يجيب زياد أبي شاكر “وجب وضع خطة طوارئ والقول فيها الى المعامل أن تتابع عملها مدة 6 أشهر على أن تعمد في منتصف سنة 2022 الى تطبيق المعايير المطلوبة وفق أجندة واضحة من نقاط: واحد وإثنان وثلاثة… اليوم، همنا نجدة الإقتصاد الذي ينهار والناس التي تجوع لذا لا يمكننا أن نقول لصناعات ليست قادرة على إكمال “المشوار” الإلتزام بمعايير القمم المناخية: أنتم تلوثون. علينا أن نوجد لهم طرق الخروج من القوقعة والأثر البيئي السيئ. هؤلاء يريدون البقاء أحياء الآن ولكل حادث آخر حديث”.
هل هذا معناه أن النفق أسود قاتم ولا إنفراج؟ يجيب أبي شاكر “نحن، في لبنان، لدينا 300 نهار شمس، لذا من مصلحتنا الإستثمار في الطاقة الشمسية. يمكننا تجميع المرايات وأن ننشئ معملاً للبطاريات. على الدولة لو كانت لديها نوايا صافية إعطاء تسهيلات الى هؤلاء ليتمكنوا من إنتاج الطاقة البديلة. لكننا، للأسف، مثل رؤساء البلديات والنواب والوزراء الذين لا يعملون شيئاً طوال فترات توليهم إلا المشاركة في المآتم والأفراح ليقولوا أنهم موجودون. هكذا فعلت دولتنا في غالاسكو.
ونحن تحت وطأة التطورات السلبية الكثيرة سمعنا “دولة الرئيس” يتحدث من قمة غالاسكو “على حرص لبنان على إنشاء إستراتيجية طويلة الأمد للحد من الإنبعاثات وتحقيق النمو المستدام بحلول سنة 2050 وإعطاء الأولوية الى الإقتصاد الأخضر الدائري”. هو كلام. ومن يعش الى ذاك الحين يتأكد. فهذه المنظومة الحاكمة، إذا ما صمدت، فلن تقدّم إلا الوعود. فشتان ما بيننا وبين إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة عن إلتزامها بتحقيق صافي إنبعاثات صفرية بحلول 2050.
إقتصاد أخضر دائري
هناك من سأل: وماذا قصد نجيب ميقاتي بقوله سيلتزم لبنان تحقيق الإقتصاد الأخضر الدائري؟ هو نظام إقتصادي يهدف الى القضاء على الهدر والإستخدام المستمر للموارد. يبدو أن الدولة اللبنانية تتوقع، كي يتحقق وعدها ذلك، بأن نكون أمام سنوات كثيرة عجاف لا اقتصاد فيها ولا إنتاج وربما لا أحياء. وما عدا ذلك فأيّ وعد بالذهنية اللبنانية السائدة فهو ليس أكثر من وعد على صابونة تذوب. وكيف لا ونحن، في لبنان، نتنفس تلوثاً. ومنظمة الصحة العالمية تقول “ان تلوث الهواء قاتل صامت”.
ذهاب لبنان الرسمي وعودته من قمة غلاسكو “لزوم ما لا يلزم”. وهذه الحقيقة مدمرة للإنسان والبيئة وكل الأحياء في بلد راكد على ملوثات بالجملة. فالبيئة إدارة والبيئة سياسة. وكل ما يصيبنا في لبنان سببه السياسات الخاطئة المنطلقة من حسابات آنية ضيقة لا من قرارات نظيفة وسياسات مستدامة. وليس نجيب ميقاتي هو المذنب هنا بل جميعهم. المذنبون هم من أرادوا تحويل الجبل الأخضر الأثري في نهر الكلب الى مقلع. ومن أسسوا لمحرقة هنا ولسدٍّ يرشح هناك إنطلاقاً من قواعد مافيوية لا من سياسات تنموية.