كتب علي نور الدين في المدن
قبل أيّام، نشر المصرف المركزي ميزانيّته النصف الشهريّة، التي تظهر بنود الالتزامات والموجودات كما أصبحت في نهاية شهر حزيران. النتيجة الأهم التي يمكن استخلاصها من هذه الأرقام، هي أنّ أكثر من نصف الموجودات الواردة في الميزانيّة باتت عبارة عن أرصدة مزوّرة، أضافها حاكم مصرف لبنان على مراحل، منذ شهر شباط الماضي، بموجب ألاعيب محاسبيّة لا تملك أي سند محاسبي أو قانوني فعلي. وعلى هذا الأساس، سيكون أمام أي حاكم جديد لمصرف لبنان تحدٍّ كبير، لجهة إعادة ترميم الميزانيّة العامّة للمصرف، بعدما أقحمتها عمليّات التلاعب الأخيرة في تشوّهات يصعب تصحيحها.
ارتفاع قيمة بند “إعادة التقييم”
في الميزانيّة النصف الشهريّة الأخيرة، ارتفعت قيمة بند “إعادة التقييم” في موجودات مصرف لبنان إلى أكثر من 42.25 مليار دولار أميركي، في نهاية شهر حزيران الماضي.
وهذه الموجودات، التي لم تكن موجودة في الميزانيّة كبند قبل بداية شهر حزيران، تمثّل خسائر المصرف المركزي والمصارف المخفيّة، والتي قرر حاكم مصرف لبنان تعويضها عبر تحويلها إلى دين مستحق على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة مصرف لبنان . وكما هو واضح، باتت قيمة هذه الديون ترتفع في كل ميزانيّة نصف شهريّة، بفعل تراكم المزيد من الخسائر التي ما زال مصرف لبنان يتكبدها، والتي يتم قيدها كديون إضافيّة على الدولة.
لخلق هذا البند، وتحويل الخسائر إلى دين عام سيحمله الشعب اللبناني منذ بداية شهر حزيران الماضي، استند حاكم المصرف المركزي للمادّة 115 من قانون النقد والتسليف، التي تتحدّث عن فتح حساب “بإسم الخزينة اللبنانيّة” لمعالجة الأرباح والخسائر الناتجة عن تعديل سعر الليرة اللبنانيّة الرسمي أو سعر إحدى العملات الأجنبيّة. مع الإشارة إلى أنّ الخسائر التي تم قيدها كدين على الدولة تُعنى بكلفة الهندسات الماليّة وتمويل التحويلات إلى الخارج وتثبيت سعر الصرف، والتي تمّت مراكمتها على مرّ عقود من الزمن بحيل محاسبيّة متعدّدة، من دون أن تتضح حتّى اللحظة نوعيّة العمليّات الاحتياليّة التي ارتبطت بها.
وفي جميع الحالات، مثّل خلق هذا البند في الميزانيّة مؤخّرًا تزويرًا محاسبيًا فاضحًا، بما يتعارض مع أحكام قانون النقد والتسليف. إذ أنّ الخسائر الملحوظة في المادّة 115، والتي يمكن قيدها على حساب الخزينة العامّة، تمثّل صافي العجز في كشوفات الحساب السنويّة الخاصّة بالمصرف المركزي، إذا تجاوز حجم العجز 25% من موجودات المصرف من الذهب واحتياطات العملة الأجنبيّة خلال سنة معيّنة. إلا أنّ هذه المادّة لا يمكن أن تبرّر مراكمة خسائر ضخمة بهذا الحجم على مرّ 23 سنة، من دون إيضاح كيفيّة مراكمتها، قبل تحويلها دفعة واحدة إلى دين عام سيتحمّله الشعب اللبناني.
بند “قروض القطاع العام”
بالإضافة إلى بند “إعادة التقييم”، يظهر في موجودات المصرف المركزي بند “قروض القطاع العام”، الذي يُظهر أيضًا رصيدًا مستحقًا على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة مصرف لبنان، بقيمة 16.61 مليار دولار. وهذا البند، لم يشهد تغييرًا يُذكر منذ إضافته إلى الميزانيّة، في بداية شهر شباط الماضي. مع الإشارة إلى أنّ هذا الديون، التي قرر الحاكم إضافتها في ذلك الوقت، لم تكن قد ظهرت في ميزانيّات مصرف لبنان في أي مناسبة سابقة.
العودة إلى أسباب ظهور هذا البند، ترتبط بحكاية لا تقل فداحة أو وقاحة عن قصّة ظهور بند “إعادة التقييم”. فحاكم مصرف لبنان قرّر في شهر شباط الماضي العودة إلى الدفاتر القديمة منذ العام 2007، من أجل احتساب جميع الدولارات التي باعها للدولة اللبنانيّة، كعمليّات قطع طبيعيّة، كديون على الدولة اليوم.
ولفعل ذلك، تحجج الحاكم بحصوله على موافقة “شفهيّة” من وزارة الماليّة سنة 2007 للقيام بهذا الأمر، وهو ما سمح للحاكم –بحسب روايته- بمراكمة هذه الديون من دون تسجيلها في الميزانيّة على مرّ 16 سنة، قبل أن يفجّر القنبلة الآن ويسجّل هذه الديون في ميزانيّة مصرف لبنان في شهر شباط 2023 .
ومرّة جديدة، لا تمثّل هذه الديون إلا تزوير فاضح للميزانيّات، خصوصًا كونها جاءت من دون أي اتفاقيّات موقّعة مع الحكومات المتعاقبة، ومن دون أن يصادق مجلس النوّاب على هذه الاتفاقيّات، بحسب أصول قانون النقد والتسليف. وحتّى لو تغاضينا عن هذه النقطة، لا يوجد ما يبرّر قيام مصرف مركزي ما بتسجيل عمليّات قطع طبيعيّة كديون على الدولة، في حين أنّ المصرف المركزي كان يستفيد خلال الوقت نفسه من الدولارات الواردة إلى الحكومة عبر عمليّات إصدار سندات اليوروبوند.
وتمامًا كحال التزوير الذي طال بند “إعادة التقييم”، يخدم خلق “قروض القطاع العام” الغاية نفسها، وهي تخفيض حجم الخسائر المرتبطة بتوظيفات المصارف في المصرف المركزي، مقابل زيادة قدر الخسائر التي سيتم تحميلها إلى الأصول والأموال العامّة.
عمليّات التزوير: 56% من موجودات مصرف لبنان
في خلاصة الأمر، وبحلول شهر حزيران الماضي، وحسب الميزانيّة النصف شهريّة التي جرى نشرها هذا الأسبوع، باتت القيمة الإجماليّة لبندي “قروض القطاع العام” و”إعادة التقييم” تقارب 58.87 مليار دولار، وهو ما يمثّل كامل حصيلة الديون التي جرت إضافتها على حساب الدولة اللبنانيّة، نتيجة عمليّات التزوير. وبينما جرت إضافة هذه الديون إلى موجودات مصرف لبنان، لكونها تستحق لمصلحة المصرف، باتت قيمة هذه المبالغ توازي اليوم أكثر من 56% من إجمالي موجودات المصرف المركزي، أي أكثر من نصف حجم الميزانيّة. باختصار، وبحلول نهاية شهر حزيران، باتت معظم ميزانيّة مصرف لبنان حصيلة عمليّات تزوير محاسبيّة لا أكثر.
في المقابل، وكما يظهر في الميزانيّة النصف شهريّة أيضًا، يتبيّن أنّ المصرف المركزي استمرّ بمراكمة الخسائر بوتيرة مرتفعة خلال الأسابيع الماضية. فخلال النصف الثاني من شهر حزيران، خسر المصرف المركزي أكثر من 104 مليون دولار، نتيجة استمراره بضخ الأموال عبر منصّة صيرفة، والتي قارب حجم عمليّاتها السنوي 14.46 مليار دولار في السنة المنتهية في أواخر شهر أيّار الماضي. ورغم جميع الالتباسات التي تحيط بطريقة عمل المنصّة، وهويّة المستفيدين منها، ما زالت الخسائر المرتبطة بها تتراكم في ميزانيّات المصرف المركزي، ما سيتراكم –بفعل الحيل المحاسبيّة المستجدة- كديون إضافيّة على الشعب اللبناني في المستقبل.
في خلاصة الأمر، باتت التشوّهات التي تقوم على أساسها ميزانيّة المصرف المركزي أكبر من الاستيعاب بعمليّات تصحيحيّة بسيطة، كما كان الحال سابقًا. بل بات ثمّة حاجة لإعادة هيكلة شاملة لهذه الميزانيّة، بعد تعديل أصول قيد العمليّات فيها، للتخلّص من آثار الحيل المحاسبيّة التي جرت خلال الأشهر الماضية، وخصوصًا تلك التي انطوت على خلق للديون العامّة لإطفاء الخسائر المصرفيّة. أمّا الإبقاء على نتائج التزوير على حالها، فسيعني استحالة إعادة الدين العام إلى مستويات مستدامة يمكن التعامل معها، كما سيعني استحالة تطبيق أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي يرفض فكرة تعويم القطاع المصرفي بالأموال العامّة.