الحقد يتفجّر في فرنسا: الهويّة الضائعة والعودة إلى الجذور!

كتب جوزيف حبيب في “نداء الوطن”:

لم يكن حادث مقتل الشاب الفرنسي من أصل جزائري نائل برصاصة شرطي أثناء عملية تدقيق مروري في ضاحية نانتير غرب باريس الثلاثاء الفائت، سوى الشرارة التي أطلقت أكبر أعمال شغب في البلاد منذ عام 2005. المشاغبون الخارجون عن القانون الذين عاثوا في المدن الفرنسية خراباً، إنّما يُفجّرون أحقاداً لها خلفيات دينية وثقافية واجتماعية وطبقية… وتاريخية تعود إلى حقبة الاستعمار والحرب الجزائرية.

ليس صدفة على الإطلاق أن يلجأ أبناء وأحفاد وأولاد أحفاد المهاجرين، خصوصاً من منطقة المغرب العربي، إلى العنف المفرط ضدّ كلّ ما هو فرنسي، سواء كان مُلكاً عاماً أم خاصاً، عند كلّ محطّة سياسية أو أمنية أو حتّى رياضية. وبالتالي، توجد مشكلة عميقة للغاية في أبعادها المجتمعية والحضارية، تفاقمت مع فشل سياسات “الإندماج” فشلاً ذريعاً في فرنسا وأوروبا، في وقت تزدهر فيه تجارة “توريث العداوة”.

لقد قاربت الإدارات الفرنسية المتعاقبة خلال الجمهورية الخامسة، معضلة المهاجرين بطريقة سطحية لم تُعالج مكامن الخلل الفعلية، فيما زادت سياسات الهجرة العشوائية من “الورطة الفرنسية” سوءاً وصعوبة. السواد الأعظم من المهاجرين لم يجدوا في “الهوية الفرنسية” وقيم الجمهورية العلمانية ما يُمثّلهم ويُعبّر عن تطلّعاتهم، في حين تمسّكوا فقط بالإعانات الاجتماعية والتقديمات الخدماتية والصحية.

لطالما أثارت دهشة المراقبين الفرنسيين كيف يتعاطف فرنسيون من الجيل الثاني والثالث للمهاجرين مع المنتخب الجزائري أو المغربي لكرة القدم على حساب المنتخب الفرنسي، وصولاً إلى حدّ “تفجيرهم” لأعمال شغب وإحراقهم للمحال والسيّارات والأعلام الوطنية الفرنسية سواء ربح منتخبهم الأفريقي أم خسر، حتّى ولو لم يكن يلعب ضدّ “منتخب الديوك”!

محتوى عشرات آلاف الفيديوات والتعليقات التي انتشرت كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي في الأيّام الأخيرة، يُعبّر بشكل لا لُبس فيه عن واقع الحال الخطر الذي وصلت إليه العلاقة بين فرنسا وأبناء مهاجريها، حيث يظهر مشاغبون يُطلقون العنان لغضبهم عبر شتمهم لفرنسا بأقذر العبارات النابية وسط سيل هائل من التعليقات القاسية والبذيئة التي تصبّ في الخانة نفسها.

وبالإضافة إلى الكلمات الجارحة لكن الحقيقية والبعيدة عن التكاذب والتقية، كان صادماً بالنسبة إلى البلاد استهداف الرعاع الواسع لمراكز الشرطة والبلديات والمدارس والمؤسّسات ومحطّات النقل المشترك وغيرها من الأملاك العامة التي تعرّضت للتحطيم والسرقة والحرق، فضلاً عن نهب المحال والأملاك الخاصة وتخريبها وإضرام النار فيها، ما أدّى إلى تحويل مناطق فرنسية إلى “ساحات حرب” بكلّ ما للكلمة من معنى.

واستنفر الأجهزة الأمنية بروز مظاهر مسلّحة في بعض أحياء المدن، حيث أظهرت فيديوات إطلاق مشاغبين ملثّمين للنار في الهواء لتخويف السكّان وبثّ الرعب في نفوسهم، بينما سُجّلت صدامات محدودة بين مواطنين نزلوا إلى الشارع للدفاع عن أملاكهم وبين مخرّبين، ما دفع مراقبين فرنسيين إلى اعتبار ما حصل بمثابة “ميني حرب أهلية” توسّعت رقعتها لتطال مناطق ومدناً عدّة في أنحاء البلاد، محذّرين من مشهد أكثر ظلامية ودموية عند أي استحقاق مفصلي في المستقبل.

صحيح أن أعمال الشغب التي امتدّت إلى بلجيكا وسويسرا، بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً بفعل الانتشار الكثيف لوحدات إنفاذ القانون وإجراءاتها الأمنية المشدّدة بعد ليال من الفوضى العارمة، بيد أن القضية الشائكة ما زالت قائمة بقوّة وبحاجة إلى مقاربة مختلفة أكثر عمقاً وحزماً. إنّ التشخيص الدقيق للجسم المجتمعي الفرنسي يكشف أمراضاً تنتشر وتتفاقم بسرعة، وستُصبح قاتلة إن لم تُعالج كما يجب.

قد يبدأ الحلّ بفتح باريس صفحة جديدة مع دول المغرب العربي، لا سيّما مع الجزائر، وتوقيعها لاتفاقات ثنائية معها لتنفيذ مشاريع انتاجية ضخمة على أراضيها، ضمن رؤية تنموية شاملة بالتعاون مع شركات فرنسية عملاقة، تفتح الباب لمَن يرغب من الشباب الفرنسي بالمجيء إلى أرض أجدادهم والإقامة والعمل فيها، ما سيُعبّد الطريق أمام هؤلاء للإنطلاق في مسيرة بحثهم عن هويّتهم الضائعة في أزقة “الضواحي” بالعودة إلى “الجذور” في مسقط الرأس.

شاهد أيضاً

اتفاق لبنان وإسرائيل: مفاوضات في الظل بين نتنياهو وهوكستين وترقّب لدور ترمب

جاء في صحيفة “الشرق الاوسط” : على الرغم من اللقاءات الكثيرة التي أجراها، آموس هوكستين، …