كتبت بلقيس عبد الرضا في “المدن”:
تتفاقم أزمة هجرة الكوادر العلمية من لبنان، وتتقاطع مع غياب أي أفق قريب لمساعدة القطاعات الطبية، وتحديداً قطاع التمريض، الذي يوصف بالحلقة الأضعف ضمن كوادر العاملين في لبنان.
يواجه قطاع التمريض في لبنان مشاكل عديدة، لكن حدتها تتعلق بغياب الكوادر المتخصصة لإنقاذ وإسعاف المرضى، وهو ما انعكس على اللبنانيين كافة.
تحديات عديدة
تعمل المستشفيات في لبنان بقدرات وطاقات أقل ما يقال عنها ضعيفة جداً، أو لا تلبي المعايير المطلوبة، ذلك أن الأزمة الاقتصادية أجبرت الأطباء ومعهم الممرضات والممرضين على ترك لبنان، بحثاً عن فرصة أفضل في الخارج.
اضطرت ميراي الخوري، ممرضة (38 عاماً)، إلى ترك عملها في منطقة شمال لبنان، بعد إقفال المستشفى لأقسام عديدة، نتيجة نقص المعدات والأدوية والمشاكل المتعلقة بالإيرادات المالية. قبل الأزمة، كانت الخوري تتقاضى راتباً شهرياً يصل إلى 900 دولار، قادرة من خلاله على الاستقرار في البلاد. مع نهاية العام 2022، انخفضت قيمة راتبها لما يعادل 100 دولار، مع الحوافز والمساعدات، ما اضطرها إلى الانتقال لإحدى دول الخليج.
تقول الخوري “وقعت على عقد لمدة عامين في مستشفى جامعي في إحدى الدول الخليجية، براتب يصل إلى 2000 دولار، وهو رقم لا يشجع أبداً للهجرة، لكن الظروف المعيشية الصعبة لا تسمح لنا بالبقاء، خصوصاً عندما نعجز عن تلبية احتياجات المرضى.
تتذكر الخوري انقطاع التيار الكهربائي لساعات عن المستشفى في شمال لبنان، وتأجيل العديد من العمليات الضرورية للمرضى، والأوضاع الإنسانية الكارثية.
قصة الخوري تتقاطع مع قصص العديد من الكوارد العلمية في مجال التمريض، خصوصاً وأن لبنان عاش أزمة حقيقية مع انتشار فيروس كورونا، وسعى الممرضون إلى التضحية لمكافحة الفيروس، لكن بعد انحسار موجة الوباء، لم يعد العديد منهم قادراً على القيام بمهامه الطبية، وتحديداً الخريجين الجدد.
تشير فاتن حموي (23 عاماً)، أنهت دراستها في كلية التمريض بالجامعة اللبنانية، إلى أنها سعت للحصول على فرصة في إحدى الدول الأوروبية وتحديداً المملكة المتحدة، بسبب النقص في اليد العاملة، وهاجرت مع 10 ممرضين بعد تخرجهم، “براتب ضئيل”، حسب وصفها، لكنه قد يفتح لها مجالات أوسع في الغرب.
ارتفاع الأعداد
ترك لبنان ما يقارب من 3000 ممرض وممرضة منذ بداية الأزمة، منهم 1000 في العام الماضي، على وقع اشتداد الأزمة والانيهار غير المسبوق في سعر الصرف، حسب ما تؤكده نقيبة ممرضي وممرضات لبنان الدكتورة ريما ساسين قازان.
تقول لـ”المدن”: “بات الوضع غير محتمل، خصوصاً وأن الجسم التمريضي بات فعلاً في خطر حقيقي، وقد رفعنا الصوت مراراً وطالبنا بإجراء تغييرات في سلم الرواتب وتحديد ساعات العمل، لكن هذه المطالب لم تتحول إلى قوانين. ولذا، زادت الهجرة. ومن غير المستبعد أن ترتفع مستقبلاً إثر إقفال أقسام عديدة في المستشفيات”.
حسب سركيس-قازان، فإن المشكلة الأكبر التي يعاني منها القطاع لا تتعلق بالهجرة إلى الخارج بقدر ما هناك أزمة أخرى أشد وطأة، تتعلق بحركة نزوح الممرضين من المناطق النائية إلى العاصمة. حسب وصف سركيس-قازان “ترتفع الفجوة الطبية بين المناطق النائية والعاصمة، بعد ترك العديد من الممرضين عملهم والنزوح إلى المدينة بحثاً عن فرصاً أفضل، وهو ما جعل المرضى في تلك المناطق يدفعون الثمن”.
تضيف سركيس-قازان “حاولت النقابة التدخل للحد من حركة النزوح هذه، من خلال حث المستشفيات على زيادة الأجور، ومطالبة الحكومة بالتدخل وتحديداً عبر دعم المستشفيات الحكومية، لكن تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح”.
ساعات طويلة
يعمل الممرضون والممرضات لساعات طويلة، من دون تلقي الأجر المناسب. حسب القوانين المنظمة للمهنة، على الممرض أن يقضي 35 ساعة عمل أسبوعياً، ولكن بسبب ندرة اليد العاملة، زاد العبء الوظيفي على الممرضين. تؤكد ساسين- قازان إلى أن بعض الممرضين يعملون لأكثر من 48 ساعة أسبوعياً، بالرغم من ضعف التقدير المادي لهم. ولذا، حاولت النقابة التشدد في ضرورة تعديل ساعات العمل، ومرونتها، حتى يتمكن الممرض من إنجاز عمله بدقة.
بالإضافة إلى ساعات العمل الطويلة، فإن الحديث عن الرواتب قصة مختلفة. يشير مصدر في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، إلى أن الكثير من الممرضين اضطروا لترك العمل، نتيجة التقاعس في تسديد الرواتب الضعيفة أصلاً، ناهيك عن ظروف العمل في ظل غياب الاعتمادات الأساسية لتشغيل المستشفى، حتى أن بعض الممرضين لم يتمكنوا من الوصول إلى أماكن عملهم، بعدما باتت الرواتب لا تكفي حتى لإجرة النقل.
في المستشفيات الخاصة يختلف الوضع نوعاً ما. بعد جولة على بعض المستشفيات للتعرف على رواتب الممرضين، يظهر بأن الرواتب تبدأ من 9 ملايين ليرة ويرتفع إلى 15 مليون ليرة، في حين أن المستشفيات الجامعية المتخصصة تسدد جزءاً من الراتب بالدولار، ما سمح إلى حد ما في الحفاظ على ما تبقى من الممرضين.
هجرة خليجية
على الرغم من غياب الإحصاءات الدقيقة حول اتجاهات هجرة القطاع الطبي، إلا أن الخوري تشير إلى أن معظم زملائها حاولوا البحث عن فرص عمل في الدول الخليج والعراق، بهدف الحصول على الفريش دولار. واستقطب العراق حسب بيانات صحفية محلية ما لايقل عن 1200 ممرض وممرضة ومتمرس تمريض، في العامين السابقين من لبنان.
تتراوح رواتب الممرضين في العراق على سبيل المثال مابين 800 و1200 دولار، وترتفع في دول الخليج إلى نحو 2000 دولار لبعض الفئات الطبية، القابلة القانونية على سبيل المثال، في حين أن الممرضين العاديين قد تبدأ رواتبهم من 1000 دولار.
لا ينفي زاهر شومان (30 عاماً)، هاجر إلى العراق بعد فشله في الحصول على وظيفة في إحدى دول الخليج، بأن “المنافسة في دول الخليج مرتفعة جداً، نظراً لوجود العديد من الجنسيات”. يقول: “يفضل القطاع الصحي في الدول الخليجية الاستعانة باليد العاملة الرخيصة نسبياً، خصوصاً من دول جنوب أسيا، إذ تمتاز العمالة من تلك الدول بخبرتها من جهة، وتدني قيمة رواتبها من جهة ثانية، وهو ما يزيد من الضغط على اللبنانيين أو حتى العرب العاملين في هذا القطاع”.