ما الذي يعكسه تراجع الصادرات الألمانية إلى الصين؟

شهدت الصادرات الألمانية إلى الصين تراجعاً ملحوظاً بلغت نسبته 11.3 بالمئة خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الجاري 2023، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، ما أثار مخاوف واسعة بشأن القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي عموماً، وفي ضوء التحديات الواسعة التي تواجه القوة الصناعية في القارة.

انخفاض الطلب من جانب أكبر اقتصاد في آسيا (الصين) يُنذر بدوره بهزّات عنيفة لاستراتيجية برلين الرامية إلى التغلب على التحديات الصناعية التي تواجهها كذلك.

بحسب تقرير نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، فلقد “أدى انخفاض الصادرات الألمانية إلى الصين إلى هز أكبر اقتصاد في أوروبا”.

وتحدث التقرير بموازاة ذلك عن أثر تراجع قطاع التصنيع الضخم في ألمانيا، مقارنة بأداء قطاع التصنيع في دول أخرى منافسة استفادت من انتعاش الطلب الصيني.

ونقل التقرير عن اقتصاديين قولهم:

شركات صناعة السيارات الألمانية تفقد حصتها في السوق الصينية.
يتأرجح منتجو المواد الكيميائية والشركات الأخرى كثيفة الاستهلاك للطاقة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة.

ارتفاع اليورو مقابل الدولار جعل السلع الألمانية أقل قدرة على المنافسة.
وطبقاً للصحيفة، يعد انخفاض صادرات ألمانيا إلى الصين من بين عدد من المؤشرات التي تشير إلى أن قطاع التصنيع الألماني يعاني من انخفاض حاد منذ بداية هذا العام، بما في ذلك انخفاض إنتاج المصانع، وتراجع الطلب وتقلص الطلبات المتراكمة، مما قد يبطئ النمو بأكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.

ولقد شعر المصدرون الألمان بأنهم “ضحايا تصاعد التوترات الأمنية والتجارية بين بكين وواشنطن”، طبقاً لتعبير الرئيس العالمي لأبحاث الماكرو في بنك ING الهولندي، كارستن برزيسكي، والذي أشار إلى أن “ألمانيا تعتبر الآن حليفة للولايات المتحدة، ما أدى إلى مزيد – بشكل صريح أو ضمني – من تثبيط شراء المنتجات الألمانية”.

وأعلنت عديد من الشركات الألمانية الكبرى -التي تحتفظ بأعمال كبيرة في الصين- عن انخفاضات كبيرة في مبيعات الربع الأول في البلاد، بما في ذلك مجموعة المواد الكيميائية BASF، وشركة فولكس فاغن الرائدة في صناعة السيارات في البلاد، وشركة Bosch لإنتاج قطع غيار السيارات.

أعلنت شركة BASF عن مبيعات بقيمة 2.3 مليار يورو في بكين في الربع الأول من هذا العام (بانخفاض بلغت نسبته 29 بالمئة).
شركة فولكس فاغن، قالت إن عمليات التسليم في البلاد انخفضت بنسبة 15 بالمئة في الربع الأول.

كما أبلغت Bosch عن انخفاض في الطلب الصيني، ما أدى إلى انخفاض مبيعات الربع الأول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 9.3 بالمئة.

ألمانيا تتجنب تكرار “التبعية”!

من برلين، يقول الخبير الاقتصادي، الدكتور ناجح العبيدي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:

تعتبر الصين أهم شريك تجاري لألمانيا، ومع ذلك تقوم برلين (وأوروبا عموماً) بمراجعة استراتيجيتها تجاه الصين لتجنب حدوث نوع من التبعية كما حدث مع الغاز الروسي.

كما أن هناك اختلالاً كبيراً في الميزان التجاري مع الصين.

صحيح أن الصادرات الألمانية إلى الصين تنمو بمعدلات جيدة، ولكن الواردات منها تزداد بوتيرة أسرع. ولهذا سجل الميزان التجاري مع الصين في العام 2022 عجزاً قياسياً قارب الـ 90 مليار دولار.

ويضيف: “يرجع هذا العجز إلى ضغط بكين على الشركات الألمانية لفتح فروع لها داخل الصين والقيام بالإنتاج هناك بدلاً من الاستيراد من ألمانيا، هذا إضافة إلى التخفيض المصطنع لسعر صرف العملة الصينية”.

ويشدد الخبير الاقتصادي على أن “هناك مخاوف أيضاً من تمدد الصين في الاقتصاد الأوروبي من خلال الاستحواذ على مشاريع البنية التحتية مثل الموانئ والمطارات وشراء الحصص في شركات بهدف نقل التكنولوجيا إلى الصين”.

ولذلك بدأت الحكومة الألمانية بفرض رقابة أشد على الاستثمارات الصينية كما حدث أخيراً مع ميناء الحاويات في هامبورغ، حيث تم تحديد المساهمة الصينية بمقدار 42.9 بالمئة؜ (أي أقل من الربع المُعطِل) وذلك لتقليص دور الجانب الصيني في صنع القرار.

في العام 2022، حافظت الصين على مكانتها كأكبر شريك تجاري لألمانيا، للعام السابع على التوالي.
بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 297.9 مليار يورو (318.9 مليار دولار)، بزيادة 20 بالمئة، وفق وكالة “ديستاتيس” الفيدرالية الألمانية للإحصاءات.
بلغ العجز التجاري الألماني مع الصين 84.3 مليار يورو (يمثل أعلى رقم منذ بدأت الوكالة تسجيل البيانات في العام 1950).
ارتفعت قيمة الواردات من الصين إلى 191.1 مليار يورو في 2022، بزيادة 33 بالمئة عن العام السابق.
سجلت الصادرات الألمانية 106.8 مليار يورو (بزيادة 3 بالمئة فقط عن 2021).
في 2022 تراجعت الصين مرتبتين إلى المرتبة الرابعة في تصنيف وجهات التصدير للبضائع الألمانية.

جاء ذلك في وقت تتزايد فيه المخاوف الألمانية من الاعتماد الواسع على بكين، في ضوء التوتر الراهن بين الأخيرة والغرب، وهو التوتر الذي يرجع الجزء الأكبر منه إلى العلاقات الصينية- الروسية. وكان مركز IfW Kiel (مركز أبحاث اقتصادية ألماني) قد نبّه في تقرير له فبراير الماضي، إلى ضرورة تنويع مصادر الإمدادات المرتبطة بالسلع الأساسية والمواد الخام بعيداً عن الصين.

أثر التوترات التجارية

ومن برلين أيضاً، يشير الكاتب الصحافي المتخصص في العلاقات الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن: الاقتصاد الألماني يعتمد على الصادرات بشكل كبير، حيث تمثل الصادرات نحو 47 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتعتبر الصين شريكاً تجارياً مهماً لألمانيا؛ إذ تستورد بكين منتجات من الألمان بقيمة تزيد عن 100 مليار يورو سنوياً، ويضيف:

في السنوات الأخيرة، كانت الصين واحدة من أكبر الأسواق الخارجية للصادرات الألمانية.

الآن صار هناك انخفاض كبير في الصادرات الألمانية إلى الصين لأسباب مختلفة، مثل التوترات التجارية بين البلدين أو التغيرات في الطلب على المنتجات الألمانية في السوق الصينية.

هذا الانخفاض الكبير ربما يؤثر على الشركات الألمانية المعتمدة على الصادرات إلى الصين وقد يتسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي في ألمانيا.
وبالنسبة لتأثير ذلك على الاتحاد الأوروبي، يضيف: يعتبر اقتصاد ألمانيا هو أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي وله تأثير كبير على الاقتصاد الأوروبي بشكل عام، وتبعاً لذلك فإذا تأثرت الصادرات الألمانية إلى الصين، فقد يكون لذلك تأثير سلبي على القوة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي بشكل عام. قد يترافق ذلك مع تراجع النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي وتأثير سلبي على الشركات الأوروبية الأخرى التي تعتمد على الصادرات إلى الصين.

هذا العام (أدنى حصة منذ العام 2016).

يتعارض هذا مع التوقعات السابقة بأن قطاع التصنيع الواسع في ألمانيا سيستفيد من زيادة الطلب الصيني بعد رفع سياسة (صفر كوفيد).
المصدرون الألمان، الذين يمثلون أكثر من ربع جميع صادرات الاتحاد الأوروبي خارج الكتلة، أعاقهم أيضاً الارتفاع الأخير لليورو من دون التكافؤ مع الدولار أواخر العام الماضي ليتداول بين 1.07 دولار و1.10 دولار في الأسابيع الأخيرة.
كما انخفض نشاط التصنيع إلى أدنى مستوى في ستة أشهر في ألمانيا هذا الشهر، وفقًا لآخر استطلاع أجرته S&P Global حول مديري المشتريات.

التبعات الاقتصادية لـ “التعنت السياسي الأوروبي”

المحلل السياسي خبير العلاقات الدولية من برلين، الدكتور عبدالمسيح الشامي، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الصين تعتبر أهم وأكبر شريك تجاري لأوروبا بكل المقاييس، وفي كثيرٍ من القطاعات والمجالات الاقتصادية تتفوق بعلاقاتها عن الولايات المتحدة الأميركية، وبما يرجح كفة بكين في التبادلات التجارية مع دول القارة، مشيراً إلى المواد الأولية التي تدخل في عديد من الصناعات الأساسية، ومن بينها صناعة السيارات والأدوية وغير ذلك تأتي من الصين، بالإضافة إلى الاستثمارات الأوروبية داخل الصين من خلال وجود عديد من الشركات والمصانع الأوروبية.

ويشير الشامي، إلى أن التعنت الأوروبي مع الصين “من شأنه أن ينعكس سلباً وبشكل واضح على الاقتصاد الأوروبي”، متحدثاً في الوقت نفسه عن المكانة الاقتصادية التي تمثلها بكين، والتي تؤثر ليس فقط في الاقتصاد الأوروبي، إنما أيضاً في الاقتصاد العالمي، لا سيما في ضوء نفوذها داخل عديد من الدول، وحاجة هذه الدول إليها بشكل عام.

ويتحدث المحلل السياسي من برلين عن الأبعاد السياسية المؤثرة على العلاقات الاقتصادية، بقوله:

في أعقاب الحرب في أوكرانيا ساءت العلاقات الأوروبية الصينية بشكل ملحوظ؛ نتيجة “المواقف العدائية” والانتقادات الدائمة من قبل الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً للصين على دور -يفترضه الغرب- للصين، بحيث ينظر الغرب لموسكو وبكين على أنهما وجهان لعملة واحدة.

في البداية لم تتأثر الأوضاع الاقتصادية، ولكن مع ارتفاع حدة المواجهة بشكل أو بآخر صارت هناك تأثيرات بالسياسات العدائية وحتى العقوبات الكبيرة التي فُرضت على روسيا وهي شريك أساسي وكبير للصين.
ساءت العلاقات بشكل كبير بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني بعد انتخابه إلى روسيا، والمواقف التي أطلقها من هناك، وردود الأفعال المختلفة من قبل الأوروبيين، ذلك على الرغم من أن الرئيس شي جين بينغ، ذهب لموسكو بمبادرة للسلام وحل دبلوماسي فيما يخص الحرب في أوكرانيا.

الارتدادات والمواقف الغربية تجاه التقارب الصيني الروسي الذي ربما ازداد قوة بعد زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو كانت لها أثر كبير على العلاقات الصينية الأوروبية.

بعد الزيارة كانت هناك زيارات مكوكية من قبل قادة الاتحاد الأوروبي إلى الصين، كانت تحمل كالعادة “التهديد والوعيد”، وبنفس الوقت “عقود للتفاوض والتبادل التجاري”، وفق مبدأ “العصا والجزرة”.

لكنه يعتقد بأن الصين تخطت مرحلة القبول بهذا الشكل من التعامل (مبدأ العصا والجزرة)، من جانب أية جهة كانت (..)، ولذلك فإن الزيارات الأوروبية الأخيرة ربما تؤدي إلى نتائج عكسية في العلاقات، وبدأت الصين تفكر بشكل جدي في معاقبة الأوروبيين على مواقفهم المتضاربة والمتقلبة (…)، موضحاً أن السياسات الأوروبية لم تكن ذكية بالقدر الكافي للتعامل مع الصين.

سكاي نيوز عربية

شاهد أيضاً

اتفاق لبنان وإسرائيل: مفاوضات في الظل بين نتنياهو وهوكستين وترقّب لدور ترمب

جاء في صحيفة “الشرق الاوسط” : على الرغم من اللقاءات الكثيرة التي أجراها، آموس هوكستين، …