كتبت راجانا حمية في “الأخبار”:
لم يكن اختياراً وإنما كان مساراً إجبارياً على رهف أن تسلكه. الشابة التي تعمل ممرّضة في أحد المستشفيات الخاصة، وجدت نفسها في عزّ أزمة «كورونا» مضطرة للمبيت في المستشفى كي لا تخسر والدتها بسبب عدوى ستلتقطها عاجلاً أم آجلاً من المصابين، بعدما «فُرزت» إلى غرفة العناية المركّزة للاعتناء بهؤلاء. مدة عام ونيّف قضتها رهف في المستشفى، كانت خلالها تتحمّل المخاطرة، فيما لم تقابل «بأي شيء، لا بالراتب ولا بأوقات الراحة»، تقول. صحيح أن منظمة الصحة العالمية قد أعطت البعض منهم رواتب بالفريش دولار، إلا أن معايير الاختيار كانت استنسابية. بعد هذه التجربة القاسية «لم نشعر بالتقدير اللازم… يعني منيح طلعت الناس زقفتلنا ع البلكون شوي»!
«فريش» دولار ومهامّ إضافية
المعاناة التي عاشتها رهف عاشتها ولا تزال الكثير من الممرّضات والممرّضين الذين «لا يجدون التقدير اللازم لجهودهم بالإجمال»، تقول سيلفا صايليان. وقد تعزّز هذا الشعور مع الأزمة المالية، حيث باتت المعاناة مضاعفة. فعدا التمييز اللاحق بالعاملين في هذا القطاع، يعاني هؤلاء من تدني رواتبهم التي إن شهدت زيادات أخيراً، إلا أنها تخضع لاستنسابية المؤسسة.
صحيح أن غالبية المستشفيات الجامعية والكبيرة رصدت جزءاً من الرواتب بالدولار، إلا أنها رصدت من الناحية الأخرى مهامَّ إضافية للممرّضة ودوامات أطول «في أحد المستشفيات أعطونا زيادة 35% من رواتبنا بالدولار، إلا أنهم زادوا ساعات العمل من 8 إلى 12 ساعة»، تقول إحدى الممرضات. وتكمن تأثيرات تلك الإضافات في «أن ذلك قد يزيد من مخاطر ارتكاب خطأ ما». وقد عمدت مستشفيات أخرى إلى إيقاف الباصات التي كانت تقلّ الممرّضات مقابل الزيادة على الراتب. مع ذلك، تبقى بعض المستشفيات أفضل حالاً من غيرها، وهو ما يعيده البعض إلى «ما يراه كل مستشفى مناسباً لإمكاناته». وفي هذا السياق، تشير الممرّضة كريستين سويف إلى أن الحال في المستشفى الذي تعمل فيه «أفضل من غيره، إذ أعطونا نسبة من رواتبنا بالدولار، وزيادة 10% في الأقسام الخاصة تضاف على أساس الراتب».
مع ذلك، تبقى حال العاملين في مستشفيات المدن أفضل حالاً من زملائهم في الأطراف، حيث «لا تزال قيمة الرواتب دون المهام المطلوبة»، يقول الممرض محمد طليس الذي يعود مطلع الشهر الجاري إلى معاش الملايين الستة، مع إعلان منظمة الصحة العالمية انتهاء «كورونا» كحالة طارئة «آخر راتب بالدولار لي هذا الشهر وكان بحدود 400». لا يعرف طليس ما قد يفعله مع العودة إلى راتبه الأصلي، ولكنه يعوّل على «وعد المستشفى بتعديل الرواتب والبدلات». حال الأخير تشبه حال باسل، الممرّض في أحد المستشفيات الحكومية «حيث تخضع رواتبنا لما تقرّه الدولة، وهي بطبيعة الحال لا تقرّ شيئاً اليوم وإن أقرّت فنحن لا نتقاضاه». وهذا الأمر دفع بباسل إلى العمل في مجالات أخرى لتأمين المعيشة اليومية.
توزيع الأرباح لصالح الأطباء
تتأرجح أوضاع الممرضات والممرضين إذاً بحسب أحوال مؤسساتهم، إذ تلعب عناصر عدّة في استقرار أوضاع هؤلاء من عدمه، ومن بينها القدرة المالية المرتبطة بـ«أعداد زبائنها» وميزانيتها وتصنيفها، إضافة إلى الجزء الأهم المتعلّق بمدى تقديرها للعاملين لديها. مع ذلك، وبرغم توافر تلك العوامل في عدد لا بأس به من المؤسسات، إلا أنه لا «طوباوية» في التعامل مع هذه الفئة أسوة بقطاعاتٍ أخرى، ومنهم الأطباء، إذ لا يزال التعاطي بإدراجهم في «أدنى السلّم»، يقول غسان صليبي، الباحث الاجتماعي والعامل اليوم مع نقابة الممرّضات والممرّضين على مسوّدة عقد العمل الجماعي. بحسب الأخير، غالباً ما يأتي توزيع الأرباح لصالح الأطباء. ثمة سبب مساعد في تلك النظرة الدونية للعاملين في القطاع، يضيفه صليبي، وهو أن «معظم العاملين في القطاع من النساء، فعلى الرغم من وجود ممرضين، إلا أن الغلبة في تلك المهنة للنساء ولذلك بنيت العلاقة بينهن وبين المستشفيات ـ أصحاب العمل ـ على أساس «فوق» و«تحت». وتبعاً لهذه العلاقة غير المتوازنة، أصبحت مهنة التمريض تتلخّص بالقاعدة القائمة على فكرة أنّ الممرّضة «بتاخد أوامر وبتاخد أقل».
وقد لعب أهل هذا القطاع دوراً في تمرير تلك المعادلة، لسببين أساسيين، أولهما ما يتعلّق بالتربية التي نشأت على أساسها الممرضة أو حتى الممرّض، بحيث يركّز الشق التعليمي على صورة الممرّض/ة المضحّي/ة، المتفاني/ة. أما ثاني الأسباب، فهو أن النقابة اتخذت منذ نشأتها الطابع المهني ولم تقترب من الطابع المطلبي إلا أخيراً، وتحديداً مع بداية الأزمة المالية ـ الاقتصادية وتردّي أوضاع العاملين في القطاع، حيث بدأت تتبلور التحركات المطلبية، وصولاً إلى محاولة النقابة اليوم العمل على مطلب أساسي يتعلّق بإعداد عقد عملٍ جماعي يضمن حقوق هؤلاء المستحقّة.
عقد العمل الموحّد
لا تراعي الكثير من المستشفيات والمراكز الصحية الفوارق التعليمية والوظيفية وسنوات الخبرة بين العاملين في قطاع التمريض، فغالباً ما تكون التقديمات، من رواتب وتأمين صحي ومساعدات مدرسية وغيرها متشابهة. أضف إلى ذلك أن هذه المستشفيات لا تجد حرجاً في التعامل مع الممرّضين والممرّضات، على أنهم درجة ثانية في القطاع الصحي. وقد أدى ذلك بشكلٍ أساس إلى تدني رواتبهم، وصولاً إلى انهيارها مع انهيار سعر صرف الليرة أخيراً، من دون العمل على تحسينها في بعض المستشفيات. وحتى في المؤسسات التي «أنصفت» الممرضات والممرضين، لناحية إعطاء جزء من الرواتب بالدولار الأميركي أو تحسين التقديمات الأخرى من تأمين صحي أو مساعدات مدرسية، إلا أنها من الجهة الأخرى وسّعت مهام هؤلاء لتغطّي غياب الذين هاجروا، أو أنها زادت ساعات عملهم وأيام الدوام.
كل هذه الأسباب، دفعت النقابة إلى إقامة ورش عملٍ تهدف من خلالها إلى الخروج بآلية عمل تضمن من خلالها توحيد شروط عمل الممرضات والممرضين وصولاً إلى إنتاج مسوّدة عقد عملٍ جماعي يمثّل، بحسب ساسين «الحدّ الأدنى الذي يمكن أن تسير على أساسه المؤسسات الصحية». ولفتت ساسين إلى أن جميع المعنيين باتوا على علمٍ بتلك المسوّدة، من نقابة أصحاب المستشفيات إلى وزارتي العمل والصحة. وأبرز ما يتضمنه هذا العقد هو العمل على التوافق على الأجور بما يتناسب مع العمل الذي يقوم به العاملون في القطاع التمريضي، مع مراعاة التضخم الحاصل. ويستحوذ النقاش حول الأجور على الجزء الأوفر، باعتبار أن الأولوية للتوافق على هذا الأمر «كونه يشكل الجدل الأكبر». ومن المفترض أن يفتح التوافق على هذا البند الباب على البنود الأخرى التي يمكن أن تكون تلقائية ولا تستدعي الكثير من النقاشات تقول ساسين، وهي البنود المتعلقة بتحديد عدد ساعات العمل وعدد المرضى لدى كلّ ممرّض وممرّضة والتأمينات الصحية.
الهجرة أفضل الخيارات!
اتّخذ الكثير من الممرّضات والممرّضين خيار الهجرة بحثاً عن فرص عملٍ تؤمن المعيشة. وقد تراوح عدد المهاجرين من المنتسبين إلى النقابة ما بين 3500 و4000، علماً أن العدد، بحسب قازان، يشمل فقط «من يخبرنا بذلك»، إذ إن هناك الكثيرين تركوا البلاد بلا خبر. أما ما هو أسوأ من لعنة الأرقام، فهو أن غالبية المهاجرين من «أصحاب الكفاءات وذوي الخبرة»، أي «الرول موديل»، والذي يشكّل العمود الفقري في القطاع والمسؤول عن تدريب المتخرّجين الجدد، فيما الباقون هم الذين كبروا على المغامرة في الخارج والمتدرّبون من المتخرّجين الجدد. وهذا ما يجعل تعويض النقص صعباً في بعض الأماكن، إذ إن «البديل عن أصحاب الكفاءات ليس ممرّضاً واحداً، وإنما 3 أو 4 لكي يقوموا بالمهام التي كان يقوم بها الأخير».
الطرق نحو عقد العمل الموحّد غير معبّدة، إذ إن موقف المؤسسات الصحية ليس موحّداً تجاه تلك الصيغة، انطلاقاً من واقع تلك المؤسسات التي تختلف كل واحدة عن الأخرى في نظامها الداخلي ووضعيتها القانونية. لذلك، فإن الحديث عن عقد عمل جماعي موحّد «يستحيل في ظلّ هذه التركيبة» يقول نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، باعتبار أن الشيء الوحيد الذي قد تلتزم به المؤسسات الصحية هو «قوانين العمل وغيرها من القوانين المرعية الإجراء». وإذ يعترف هارون بأحقية العاملين في قطاع التمريض بالتحسين، إلا أنه يعتبر أن المشكلة لا تخصّ هؤلاء فقط، انطلاقاً من «وجود مشكلة أجور لكلّ العاملين في القطاع الصحي»، والتي تتلازم «مع أزمة مالية تعاني منها المستشفيات، ولذلك لا سبيل للحراك… وإن استمرّ الموظف في الضغط على المستشفيات، فالمسار الأكيد هو الإقفال»، متسائلاً: «هل الأفضل أن تُقفل المستشفيات، أو أن نرضى بما تقدر المستشفيات على إعطائه؟». تساؤل يفضي في النهاية إلى الخلاصة التي تقول إنه «يستحيل تطبيق عقد عمل موحّد»، ويُستتبع بتأكيد أنه «لا يمكن لفريق أن يضع مخططاً ويحاول فرضه على الفريق الآخر». ولذلك، لا ملجأ إلا القانون «ونحن للمناسبة ننتظر مشروع القانون الذي يُدرس في مجلس النواب والذي يأخذ في الحسبان العلاقة بين الممرّضين والمستشفيات، للعمل بموجبه». ويتماهى هذا الموقف مع ما كان قد استشفّه البعض من موقف أصحاب المستشفيات الذين بادروا بالإجابة عن مدى إمكانية تحسين الأجور وتطبيق عقد عمل جماعي بالقول: «جيبولي تمويل بعطيهم»!