لم يعد طبق الاتصالات الدسم والمغمّس بالفساد قابلاً للهضم. أصبح محاصراً من قبل ديوان المحاسبة الذي وضع يده على أبرز القضايا المسبّبة لهدر المال العام. شكّل تقريره حول قطاع الإتصالات، وما يُعرف بمبنى «قصابيان» في الشياح، ومبنى «تاتش» الجديد في الباشورة، مضبطة اتهامية متكاملة، مُفصّلاً مكامن الفساد والمسؤوليات بالأسماء والأرقام. أثبت أنّ الهيئات والأجهزة الرقابية في لبنان، قادرة على فتح دفاتر الوزارات، العتيقة والحالية، وكشف ما سترته دواوين السياسة. القضية ثقيلة، وعلى مجلس النوّاب أن يتحمّل مسؤوليته كسلطة تشريعيّة وأيضاً رقابية.
واللافت في هذا المسار أن ذهنية اللجان النيابية ومنها لجنة الإتصالات والاعلام تبدّلت في تعاطيها مع هذا الملف عمّا كانت عليه في العهود أو البرلمانات السابقة. إذ عقدت جلسة الإتصالات أمس، برئاسة النائب إبراهيم الموسوي وحضور وزير الإتصالات في حكومة تصريف الأعمال جوني القرم والأعضاء النواب، كما حضر رئيس ديوان المحاسبة القاضي محمد بدران، رئيسة هيئة القضايا هيلانة اسكندر، القاضية ماريز العمّ نيابة عن وزير العدل وممثلون عن الإدارات المعنية.
في التفاصيل، كشف مصدر مطلع لـ»نداء الوطن»، أن ديوان المحاسبة كان حاسماً وجازماً في ردّه على تساؤلات النواب والوزارء المعنيين، واضعاً النقاط على الحروف، مستنداً إلى تقريره المثبت بالأدلّة والبراهين. وأكد أنه سيواصل مهمته إلى حين تبيان الفاسدين والمخلّين بهدر المال العام وتبرئة المستحقّين. كما لفت إلى أن التحقيق مستمر وسيشمل كل المتورطين بالملف من وزراء وموظفين وصولاً إلى أصحاب العقارات. وشدّد الديوان على أن تقريره غير مجتزأ كما وصفه بعض النواب والوزراء في تصريحاتهم الاعلامية الأخيرة للتنصّل من مسؤولياتهم. محاسبة الوزير لا تكون فقط عندما يهدر أو ينهب المال العام ويغرق في الصفقات، بل عندما يتقاعس في القيام بواجباته. وشبّه الديوان خلال الجلسة، «قضية الإتصالات بمريض توفّي في غرفة العمليات جرّاء خطأ طبيّ، ما يعني أنّ المسؤولية تقع على عاتق الجسم الطبّي المولج بالعملية».
وفي سياق الجلسة، وتعليقاً على كلام القرم الذي قال إنّه لم يتمكن من وضع إشارة على عقار «تاتش» الجديد، عازياً السبب إلى إضراب الدوائر العقارية، ردّ الديوان أن «الدوائر الرسمية فتحت ليلاً أمام بعض الزعماء لنقل ملكياتهم الخاصّة، فيما تحجّجت بالإقفال أمام مسألة خطيرة مرتبطة بهدر المال العام».
ولدى امتعاض أحد النواب الذي اعتبر أن صدور التقرير من دون أن يتمّ الإستماع إلى الوزراء المعنيين أو التحقيق معهم، هو اجحاف بحقّهم، تبيّن أنّ «الديوان قد أوضح جازماً أنه استند في تقريره إلى مراسلات وكتب رسمية مع الوزارات والإدارات المعنيّة، وأنه ليس محكمة كي يستدعي الوزراء من أجل التحقيق معهم». وأشار مصدر متابع إلى أن القضية باتت أكبر من أن يحاول السياسيون «لفلفتها» أو تمييعها، أو المراهنة على عامل الوقت لإسقاطها في المنازعات والمتاهات السياسية. تقرير الديوان هو «محاكمة تاريخية» وهذا ما لم نشهده في السابق. لأوّل مرّة لا يتمّ تمويه الحقيقة أو تجميلها.
واللافت في هذه القضية التي تأخذ منحى تصاعديّاً، أن الأجهزة الرقابية المعنية باتت تتحرّك تلقائياً، ومنها هيئة القضايا، وهذا ما دعا إليه رئيس اللجنة النائب الموسوي خلال الجلسة، مشيراً إلى أنه «من الآن حتى أسبوعين أو ثلاثة ممكن أن تصدر الأحكام بعدما يدلي الوزراء بدفاعهم. وإحالة هذا التقرير إلى النيابة العامة التمييزية»، مؤكّداً أنه «لن يطوى كما طويت ملفات أخرى. سنقوم بواجبنا على أكمل وجه».
نداء الوطن