كتبت الأستاذة المتفرغة في الجامعة اللبنانية د. ميرفت بلوط:
إنّ ما تعيشه الجامعة اللبنانية اليوم من نزف مستمر في كادرها البشري، ليس وليد اللحظة، ولا بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية فقط، بل هو نتاج عدة عوامل أدت إلى ذلك. إنّ أداء أهل السّلطة السيئ والمتعمد تجاه الجامعة، والاهمال والتهميش المزمنين لمطالب الأساتذة، أديا إلى هذه النتيجة الحتمية، حيث إن عشرات بل مئات الأساتذة تركوا الجامعة نهائيا وغالبيتهم هاجروا، فخسرتهم الجامعة وخسرهم الوطن.
المؤسف في الأمر والمحزن أيضا، أنّ الحكومات المتعاقبة عمِلت على ضرب أدنى حقوق الأساتذة ومطالبهم، ووضعتهم أمام خيارين كلاهما مرّ، الأول هو الهجرة وترك الجامعة التي لديهم انتماء قويّ إليها، وهم الذين كانوا بغالبيتهم من طلابها الذين تابعوا دراساتهم العليا في الخارج ثمّ عادوا ليخدموا مجتمعهم، فما وجدوا سوى الغربة في وطنهم، وما أقساها وأمرها من غربة! وأمّا الخيار الآخر، فهو البقاء فيها والعمل في ظلّ ظروف معيشية صعبة للغاية، لا تليق بأستاذ جامعي ولا بالتضحيات التي يبذلها في سبيل استمراريتها والنهوض بها.
وهنا لا بدّ من ذكر بعض الأسباب التي تجعل مطالب الأساتذة أكثر من ملحّة ومحقّة، بل هي في غاية الأهمية من أجل بقاء الجامعة ووقف النزف المستمر في كادرها التعليمي. فهل يُعقل أن أستاذا متفرغا عليه أن يتفرغ كليا للجامعة ولا يحق له ممارسة أي عمل آخر، في حين أنه يخشى مستقبلا قاتما ينتظره! فعدم إدخاله إلى الملاك، يعني بقاءه لاحقا من دون أي معاش تقاعدي يضمن له ولعائلته حياة كريمة! نعم، لقد أُُقرّ مؤخرا القانون الرامي إلى إدخال الأستاذ المتفرغ الى الملاك عند بلوغه سنّ التقاعد، ولكن ما الضمانات بأن يطبق حتما هذا القانون، في بلد يعلو القرار السياسي فيه على كل القوانين. بل أكثر من ذلك، ما الضمانة بأن لا يتوفى الله المتفرغ ما دون سنّ التقاعد، فتصبح عائلته من دون أي مردود مادي، وهذا ما حصل بعد وفاة زملاء كثر. وهل يُعقَل أن أستاذا جامعيا عليه أن يتعاقد مع الجامعة بنصاب كامل وليس لديه أي استقرار وظيفي؟! فهو لا يعلم إن كان سيُقر تفرّغه أو لا! وفي حال أُقرّ يكون الأستاذ قد أمضى سنوات طويلة من المعاناة في انتظار هذا التفرغ، حيث إنّ عليه أن يؤدي كل مهامه في الجامعة وفي المقابل لا يحصل على راتب شهري ولا على أيّ ضمان صحيّ!
كل هذه المعاناة التي يعانيها الأساتذة، هي نتاج الإهمال المتعمّد من قبل المسؤولين لقضايا الأساتذة وعدم احترامهم أو تطبيقهم للقوانين. فالقانون ينص على إدخال المتفرغين إلى الملاك بعد مضيّ سنتين على تفرغهم، وها نحن حتى اليوم ننتظر إقرار ملف الملاك العالق منذ العام 2016! كذلك الأمر بالنسبة إلى ملف التفرّغ العالق منذ العام 2014، فالقانون ينص على أنّ نسبة الأساتذة المتعاقدين في الجامعة يجب أن تكون 20%، في حين أنّ هذه النسبة هي نحو الـ80% منذ سنوات طويلة، بسبب تعنّت أهل السلطة وعدم إقرارهم ملف التفرغ. وهنا لا بدّ من التساؤل، لماذا لا يتمّ وضع قانون يتيح تفرغ الأستاذ تلقائيا بعد مضي سنتين على تعاقده مع الجامعة وأدائه لمهامه الأكاديمية بنصاب كامل، عوضا عن هيمنة أهل السلطة على قرار تفرغه؟! كلّ ذلك يعيد إلى الأذهان أنّ الضربة القاضية للجامعة بدأت عندما صادر أهل السلطة صلاحياتها منذ العام 1997 وأصبح إقرار التفرغ منوطا حصرا بالحكومة.
من هنا، يتّضح جليّا أن أزمة الجامعة اللبنانية مزمنة، وهناك تراكم للملفات والقضايا العالقة ولقد تمّ ذكر ملفّي التفرغ والملاك على سبيل المثال لا الحصر.
نعم، إنّ الأزمة الاقتصادية الراهنة التي أدّت إلى تآكل قيمة رواتب الأساتذة المتفرغين بما يقارب الـ90%، والذين أصبحوا مكشوفين صحيا بسبب عدم دعم موازنة صندوق تعاضدهم، بالإضافة إلى يأس المتفرغين والمتعاقدين من إقرار ملفاتهم، كلها عوامل أتت لتزيد من الأزمة وتفاقمها ودفعت الأساتذة إلى المزيد من الهجرة.
إنّ المسؤول الأول والأخير عمّا يحصل، هي السلطة السياسية التي أمعنت في ضرب الجامعة اللبنانية، بل تعمدت ذلك لسببين رئيسين لطالما شددنا عليهما، الأول هو أنّ الجامعة غير مربحة، والثاني هو أنّ هناك علاقة مباشرة بين مسؤولين في السلطة وعدد كبير من الجامعات الخاصة التي أُنشِئت في السنوات العشر الأخيرة، وهي بحاجة إلى الدعم وإلى رفدها بالطلاب، وكلّ ذلك يأتي على حساب جامعة الوطن.
فإلى متى سيستمر أهل السلطة في تهجير الأدمغة من جامعة وطنهم؟!