كتبت راكيل عتيّق في “نداء الوطن”:
تتعدّد الوساطات الغربية والعربية رئاسياً وباب الحلّ واحد مفتاحه في الرياض، لا في باريس ولا واشنطن، بحسب جهات سياسية عدّة. ومدخل الحلّ هذا يشمل المسألة اللبنانية كلّها وليس الاستحقاق الرئاسي فقط، ذلك لأنّ الأزمة التي يعيشها لبنان لم تعد سياسية فقط بل هي من طبيعة مالية بامتياز. ولا دولة في العالم مستعدّة أو قادرة على مساعدة لبنان مالياً، باستثناء الدول الخليجية، من خلال السعودية.
بالتالي أصبحت الرياض الممرّ الإلزامي للحلحلة في لبنان، وكلّ الدول الأخرى تتحرّك من موقع المساعد والمؤازر لها، ومن بينها قطر التي لن تتخطّى مبادرتها رئاسياً السقف المحدّد سعودياً. ولمدّ اليد للدولة اللبنانية مجدداً، بعد تجارب سابقة سياسية ومالية لم تحُل دون توسُّع نفوذ «حزب الله» في الدولة، حدّدت السعودية شروطاً، في طليعتها وصول رئيس للجمهورية غير خاضع لـ»محور الممانعة»، وقادر على تنفيذ الإصلاحات السياسية والتزام وثيقة الوفاق الوطني أو «اتفاق الطائف»، بحسب جهات مطّلعة.
وإذ يثبت تأثير السعودية في لبنان، سياسياً ومالياً، يتكشّف حجم انحسار التأثير الفرنسي في البلد، إن على الجهات السياسية، وإن عبر سياسة إيلاء الأولوية للمصالح الفرنسية التجارية على مصلحة لبنان والعلاقات التاريخية التي تجمع البلدين. لذلك تحاول الإدارة الفرنسية التأثير على التوجُه السعودي في لبنان على أن ينعكس ذلك تأثيراً على جهات سياسية لبنانية حليفة للمملكة.
إلّا أنّ المعارضة تعتبر أنّ الموقف السعودي ثابت، لجهة عدم القبول بمرشح «حزب الله» رئيساً للجمهورية، إن كان إسمه سليمان فرنجية أو أي اسم آخر. في المقابل، يعوّل «محور الممانعة»، خصوصاً «الثنائي الشيعي»، على التفاهم السعودي – الإيراني والتقارب العربي – العربي، خصوصاً الانفتاح على سوريا برئاسة بشار الأسد، بحيث تعزّز هذه الصفحة الجديدة مع طهران ودمشق حظوظ رئيس تيار «المرده» رئاسياً، لقربه من العاصمتين.
لكن للمعارضة، لا سيما منها الجهات المسيحية، قراءة أخرى، انطلاقاً من تطمينات جدّية، وتعتبر أنّ الحراك الانفتاحي والتبريدي في العالم العربي يحصل بفعل التقارب السعودي – الإيراني، ويشكّل قلقاً للفريق الممانع، فأيّ تقارب سوري من الجامعة العربية يعني حكماً ابتعادها من إيران. وترى أنّ هناك وضعية جديدة في المنطقة بقيادة سعودية تهندس العالم العربي استناداً إلى قواعد واضحة، ودور إقليمي عربي غير مسبوق من خلال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يذهب في اتجاه عروبة حديثة وحضارية أولويتها الإنسان، تقوم على قاعدة التزام سيادة الدول العربية ومنع التدخل فيها. وأمام هذا الصعود للدور العربي بقيادة السعودية، لا تأثيرات لدول على أخرى وسيجري الحد من النفوذ غير العربي. وفي لبنان، تهدف السعودية، إلى إرساء ميزان فعلي يبدأ من خلاله تصحيح الخلل في تطبيق «اتفاق الطائف». وبالتالي لا يمكن تكريس أن يكون مرشح الممانعة رئيساً للجمهورية.
بالتوازي تجتمع غالبية القوى المسيحية، لا سيما منها الكُبرى، على رفض فرنجية، ولن «تنكسر» أمام منطق الفرض إن بالتهديد أو عبر التسويات، الذي ينتهجه «فريق الممانعة» و»يُسايره» فيه مسؤولون في باريس أو أي عاصمة أخرى. وهذا الرفض أبعد من موقع رئاسة الجمهورية، لأنّ البلد بحسب جهات مسيحية معارضة، أمام مفترق مصيري، لا يقتصر على الانتخابات الرئاسية، بل تشكّل رئاسة الجمهورية مدخلاً لإعادة تصحيح الخلل الذي بدأ مع الانقلاب على «اتفاق الطائف»، والذي أدّى إلى الواقع السياسي القائم الآن. فالانتخابات الرئاسية ليست نهاية المطاف بالنسبة إلى المسيحيين، بل بداية في هذه المرحلة، لتصحيح الخلل في تطبيق «اتفاق الطائف» من خلال تحقيق المساواة بين اللبنانيين. وهذا لا يؤمّنه رئيس ممانع.
ويأتي توقيت الانتخابات الرئاسية، في مرحلة، تتوسّع فيها طروحات ومطالب شعبية مسيحية تبدأ من اللامركزية الإدارية الموسّعة ولا تنتهي بالفدرالية، بل تصل إلى التقسيم، وذلك سببه الأساس، انعدام التوازن في البلد، ومنطق الفرض نفسه المُعتمد الآن رئاسياً. وبالتالي، إنّ تكريس سطوة «محور الممانعة» في الدولة، عبر رئاسة الجمهورية، سيعزّز هذه الطروحات أكثر، خصوصاً أنّها شعبية وتخترق كلّ الأحزاب والتيارات، فيما تعمل القيادات المسيحية على احتوائها.
ويتعزّز هذا الشعور المسيحي الشعبي بسبب رفض «الثنائي الشيعي» للامركزية الإدارية، الواردة في «اتفاق الطائف»، عبر اجتهادات عدة، وعرقلة إقرارها في مجلس النواب. فحتى في عهد الرئيس ميشال عون، حليف «حزب الله»، والذي كان مرشحه الأوحد كما فرنجية الآن، لم تُقرّ هذه اللامركزية، على رغم مطالبة رئيس «التيار الوطني الحر» بإقرارها. المطالب المسيحية الأقلّ من ذلك لم تسلك طريق التنفيذ في عهد عون، فحتى محافظة كسروان – جبيل، التي تسهّل بعض الإجراءات والمعاملات الإدارية على المواطنين، لم تصدر مراسيم تنفيذها على رغم إقرارها في قانون صادر عن مجلس النواب منذ سنوات.
ويجب أن تكون اللامركزية الإدارية التي تشكّل حاجة لجميع المواطنين مسلمين ومسيحيين، ومنطلقها إنمائي وإصلاحي، العنوان الأول في العهد الجديد. لكن هناك إرادة من محور الممانعة، بحسب الجهات نفسها، بالسيطرة مركزياً بغية السيطرة على مساحة الأراضي اللبنانية. وإذ يحاول «الثنائي الشيعي» الاستثمار في الخلاف المسيحي – المسيحي، أثبتت تجارب عدة، أنّ تحالف القوى المسيحية الوازنة سياسياً ليس الأساس، فعندما تتقاطع على مسألة معيّنة، يمكنها تأمين مطالبها الوجودية أو الدولتية، من قانون الانتخاب إلى «التوقيت».