كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
الرئيسان فؤاد شهاب وحسين الحسيني، كل في زمانه وفي تاريخه المختلف، أعطتهما الحياة من صنعها ما شاءاه. لكن ثمة ما لا تعطيه الحياة بل البشر لفعلٍ يُدان به القدر. مات شهاب قبل ان يبصر الدولة التي بناها تتداعى تدريجاً عشية الحرب الاهلية، فرقد كأنه يبيت في جذورها. رحيل الحسيني البارحة كان أكثر ايلاماً. لم يشهد فحسب انهيار دولة شهاب، وكان في مراحل عدة قبل النيابة معارضاً لعسكريتاريا النظام كما وُصفت. في صفّ ريمون اده لا سواه. مذ استقال من البرلمان عام 2008 لم يكن يجهر بمغادرته الحياة السياسية فحسب، بل كان يبصر الدولة الجديدة التي افترض أنها أنهت الحرب وأعادت التوازن الى نظام الدولة ووزعت السلطات والصلاحيات، تتهاوى امامه. بيان استقالته في 12 آب 2008 كبيان عزوف شهاب في 3 آب 1970. كلاهما فقدا الامل في مشروعيهما. قبل ان يموت الرئيس السابق للبرلمان شهد على موت اتفاق الطائف.
رغم اقتران حقبته الطويلة في العمل السياسي منذ دخوله الى البرلمان للمرة الاولى عام 1972 باتفاق الطائف، الا ان محطات عدة تعاقبت مذذاك قبل الحرب وبعدها. الى جانب الرئيس صبري حمادة ثم مغادرته. الى جانب الامام موسى الصدر الى حين اختفائه. مع ريمون اده في كل حين مستمدّاً منه صداقة معمّرة تعود الى جذور عائلة الحسيني في جبيل، والعلاقة الوطيدة التي جمعت علي الحسيني والده بالرئيس اميل اده. سيؤيد «العميد» في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1976 ويقاطع جلسة انتخاب الرئيس الياس سركيس، الا انه سيكون الى جانب الامام في تأييد دخول القوات السورية لانهاء حرب لبنان، على طرف نقيض من «العميد». سيكون احد مؤسسي جبهة المحافظة على الجنوب بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1978، ثم تتعاضد الجبهة مع التجمع الاسلامي كي يرفضا لغة العنف والميليشيات والاقتتال. عام 1982 قاطع جلسة انتخاب الرئيس بشير الجميل معتصماً مع المقاطعين في منزل الرئيس صائب سلام في المصيطبة، ثم يشارك في جلسة انتخاب الرئيس الخلف امين الجميّل. مذذاك بدأت الفصول الجديدة في مساره. عام 1984 انتخب رئيساً للبرلمان. اولى زيارته الى الخارج كانت للبابا يوحنا بولس الثاني على رأس وفد نيابي كبير. الحدث الاهم الذي سيحمل اده على ان يهاتفه بصوت عال من باريس، الغاء مجلس النواب في ايار 1987، في ظل حكومة مستقيلة كان لا يزال يترأسها الرئيس رشيد كرامي، الوثيقتين الاغلى كلفة على استقرار لبنان: اتفاق السلام مع اسرائيل واتفاق القاهرة. باتفاق ضمني بينه وبين كرامي اتمّا المهمة دونما معرفة دمشق سلفاً بها. غضبت وألقت باللائمة عليه لانتزاع ورقة اتفاق القاهرة التي كان لا يزال في الامكان، عام 1987 حتى، التفاوض عليها.
وقف الى جانب حكومة الرئيس سليم الحص عام 1988 ضد حكومة الرئيس ميشال عون، وقاد مذذاك بين بكركي وروما وباريس، مع البطريرك الماروني مارنصرالله بطرس صفير، جهود تسوية سياسية هي اتفاق الطائف عام 1989. عندما كان يتحدث عن اده والبطريرك، كان يعثر فيهما وحدهما على صورة لبنان الدولة في غابة ميليشيات.
مرات ثلاثاً استقال. الاولى غداة اغتيال كرامي في الاول من حزيران 1987. في يوم التشييع امام الزعماء السنّة يتقدمهم مفتي الجمهورية، بعبارة رعناء اتهمهم نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام بالتخاذل في مواجهة الرئيس امين الجميّل، بعدما قبلوا بتعيين وزير التربية سليم الحص رئيساً للحكومة بالوكالة. اراد افهامهم ان سوريا مع شغور منصب رئاسة الحكومة بغية ممارسة مزيد من الضغوط على رئيس الجمهورية لحمله على التنحي. اول مَن قصده بعباراته، الحسيني الذي تواصل على اثر الاغتيال على نحو غير مباشر مع الجميّل من خلال مستشار الرئيس محمد شقير من اجل المسارعة للحؤول دون وقوع فراغ في رئاسة الحكومة. ما كان يرويه الرئيس الراحل عن واقعة يومذاك: «في بيت عبدالحميد كرامي حصل صدام بيني وبين خدام الذي استاء من الاخراج الذي لم نستشره به. كنت طرحت الفكرة على دار الفتوى ووافقني المجتمعون دونما اي تفرد. وحده حسن الرفاعي عارض الاقتراح واعتبره غير دستوري بذريعة ان لا وكالة عن ميت. قال لي خدام قبل مباشرة مراسم التشييع: انتم فرّطتم بدم رشيد كرامي. استغرب تعيين الحص قبل دفن الرئيس الراحل واعتبره تخطياً للعادات والتقاليد. أجبته: لكن الى اين يقودنا الفراغ؟ لا بد من المحافظة على الشرعية. على كل حال هذا هو الحل الذي ارتأيناه وفقاً لمعطياتنا. اما اذا كانت لديك معطيات اخرى افضل، إعتبر انني والرئيس الحص مستقيلين من رئاستي الحكومة والمجلس. قال: لم اقصد ذلك بل اريد المحافظة عليكم. قلت وانا امسك بيده: انا الذي اقترح الحل وهم وافقوني عليه. عدت من طرابلس واعلنت استقالتي».
لم يرمِ تعيين الحص الى كسر مقاطعة الجميل المعلنة منذ 16 كانون الثاني 1986، الا انها – وهو ما رام الحسيني تفسيره في ما بعد – ابقاء قاعدة المشاركة في الحكم قائمة وان في ظل حكومة مستقيلة.
لم تكن تلك اولى المرات التي يصطدم بخدام. غلب على علاقتهما الفتور على نحو دائم، عوضه استقبال الرئيس حافظ الاسد له وقصر الحوار معه. احدى اصعب المحطات تلك، الاتفاق الثلاثي عام 1985. لم يسعه تقبّل أن يُعهد إلى ثلاث ميليشيات متورطة في النزاع الداخلي ومتقاتلة وضع مشروع اصلاح النظام وتعديل الدستور وفرضه بالقوة على المؤسسات الدستورية. مراراً قال انه لن يسمح بعرضه على مجلس النواب للمصادقة عليه، مع ابداء الاستعداد لأن يُدرس مجدداً في البرلمان بعد مجلس الوزراء، من ثم يصادق عليه بعد ان يمسي مشروعاً خرج من المؤسسات المختصة.
ثانية استقالاته كانت عام 1992، من رئاسة المجلس ومن النيابة آنذاك، عندما رفض ننائج فرز الاصوات المجرى في دائرة بعلبك – الهرمل من فرط التجاوزات التي رافقتها مطالبا بالغائها. بعد ايام عاد عنها لئلا يساء تفسيرها كأنها موجهة الى دمشق، صاحبة قرار الانتخابات النيابية وصانعة تحالفات ذلك الاستحقاق بغية الوصول الى برلمان يدين لها بغالبيته. باكتمال عقد المجلس، لم يتلُ الرئيس الجديد للبرلمان نبيه برّي رسالة الاستقالة كي يأخذ المجلس علماً بها، فظلت نيابة الحسيني مستمرة، الا انه انقطع طوال السنوات الاربع للولاية عن حضور الجلسات تعبيراً عن موقفه الرافض الاعتراف بشرعية انتخابه.
دفع حينذاك ثمن الاستقالة بإقصائه عن رئاسة البرلمان بأن خلفه الرئيس نبيه برّي الذي اجتاح مقاعد الجنوب وسحق لائحة الرئيس كامل الاسعد وأخرجه نهائياً من المعادلة السياسية. لم يقتصر سرّ الاقصاء على انتخابات 1992. لسنتين خلتا، تشكى منه الرئيس الياس هراوي لدى نظيره السوري طالباً التخلص منه بذريعة تمسكه باتفاق الطائف على نحو أشعر هراوي انه اضحى فاقد الصلاحيات. وجهة نظر الحسيني، في مطلع عهد اتفاق الطائف، تطبيق احكامه على النحو الذي لحظته الاصلاحات السياسية والدستورية. بدا من المتعذر ان يجد في هراوي ما كان ينتظره من انتخاب رينه معوض قبل ان يفاجئه الاغتيال. ذلك ما سيحمله على رفض تمديد ولاية هراوي عام 1995 ويكون اقرب الى تأييد انتخاب قائد الجيش اميل لحود ثم يؤيد انتخابه بعد ثلاث سنوات.
ثالثة استقالاته اذنت بخروجه من المعترك السياسي. في 12 آب 2008 في جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، الاولى في ظل اتفاق الدوحة. ما راح يرويه الحسيني في ما بعد عن الاستقالة ان «اتفاق الدوحة، بالبنود التي تضمنها سواء بانتخاب رئيس للجمهورية دونما احترام الاحكام الدستورية المنصوص عليها في المادة 49 وتأليف حكومة محاصصة لرئيس الدولة حصة فيها تفقده مرجعية الاحتكام ووضع قانون انتخاب اعاد البلاد اربعة عقود الى الوراء، قوض ما تبقى من اتفاق الطائف». لم يعد ثمة ما يجمعه بالنظام الذي ساهم في بنائه عام 1989. انقطع عن برلمان 2009. في الاستحقاق التالي عام 2018، احجم عن الترشح مجدداً ببيان اصدره في 25 آذار، فيما ترشح شقيقه مصطفى في جبيل فنجح بالحاصل الانتخابي بينما خسر ابنه حسن ترشحه في زحلة.
حينما كان يُسأل عن محاضر اتفاق الطائف والمطالبة بنشرها كان يكتفي بالقول انها اصبحت «في ذمة التاريخ. لا اهمية لها بعد اقرار وثيقة الوفاق الوطني وتعديل الدستور». يكشف ان فيها «اسرار اللبنانيين جميعاً بعضهم حيال بعض او حيال الخارج، ولم يعد من الواجب العودة اليها في مرحلة ارساء السلم واعادة بناء الدولة. قيل في المحاضر في السر ما لم يقل في العلن بلا خوف ولا ترهيب. لو لم يفعلوا لما توصلنا الى وضعها وانهاء الحرب. كانت اقرب الى كرسي اعتراف ضروري كي يدلي كل طرف بدلوه. ما يخشى ويخاف منه ويتوجس ويرضيه ويطمئنه تحت سقف الدولة في اطار عيش مشترك. كل ذلك وصلنا اليه اخيراً من خلال الاسرار تلك التي اضحت ملك التاريخ وليست ملكي».
ثمة كثير كان يرويه الحسيني عن اتفاق الطائف وما قبله وما بعده: «تحدثت مع البطريرك مارنصرالله بطرس صفير في الديمان من دون معرفة رينه معوض في امكان انتخابه في المقر الصيفي للبطريركية المارونية في الديمان ما دام هناك خطر قصف المكان الذي سيُنتخب فيه. وافق البطريرك على الفكرة على أن تُبحث في ما بعد في بنود اتفاق وطني. رأيي اولوية انتخاب الرئيس على الخوض في الوفاق الوطني. وافقت سوريا على هذا الحل ايضاً بعدما فاتحتها به. حاولت اقناع رينه معوض المعني الاول كي يصير الى وضع هذا التفاهم موضع التنفيذ فوراً، فرد: لا. صحيح انا راغب في ان اصبح رئيساً للجمهورية ولا اتدلل على ذلك. لكن هذا الاقتراح لن ينجح. بلا وفاق وطني يسبق الانتخاب لن ينجح الرئيس المقبل. لدي تجربة مع فؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجيه والياس سركيس وقد رافقتهم جميعاً في عهودهم. الرئيس وحده لا يكفي. اي رئيس لا يحظى انتخابه بتوافق الجميع وتفاهمهم الوطني لن يسعه تنفيذ اي خطوة سواء كنت انا او سواي. هذا الاقتراح لن ينجح. فشلت المحاولة بعدما جزم رينه معوض بأنه لن ينجح من دون ان يمهد لانتخابه تفاهم وطني. لكن الانجاز الفعلي الذي تم حتى ذلك الوقت وظل سرياً بيني وبين البطريرك هو الاتفاق على انتخاب معوض. تكريساً له اصطحبته الى دمشق في 17 حزيران 1989، اربعة اشهر قبل التئام النواب اللبنانيين في الطائف. في لقاء ليلي طويل وافق الرئيس حافظ الاسد على دعم انتخاب معوض».
برحيله البارحة، مخلفاً مذكرات تأخر اصدارها، يذهب جزء آخر من تاريخ لبنان الى التاريخ.